خلال شهر مارس من العام المقبل تكمل دار الكتب المصرية مائة وخمسين عاما من عمرها (1870-2020م), وهي تمثل واحدة من بين أهم وأعرق المؤسسات القومية ذات الطبيعة الثقافية التي عرفتها مصر في تاريخها الحديث والمعاصر, حيث تعد مكتبتنا الوطنية التي تعني علي نحو خاص بحفظ ذاكرة التراث الفكري والإنتاج الثقافي للمصريين من مؤلفات وصحف ووثائق ومخطوطات, إضافة إلي الإنتاج الثقافي الوارد إلينا من الخارج.
وحسب الكتابات التي تناولت تاريخ دار الكتب المصرية فقد مرت الدار بمحطات عديدة بدءا من 23 مارس 1870م حينما أصدر الخديو إسماعيل (1863-1879م) أمرا إلي علي باشا مبارك- ناظر المعارف آنذاك- بجمع المخطوطات والكتب التي كان قد أوقفها الأمراء والعلماء علي المساجد ومعاهد العلم لتكون نواة لمكتبة عامة, وكان علي مبارك قد شاهد المكتبة الوطنية في باريس, وأراد أن تكون المكتبة المصرية علي نمطها, وقد بدت دار الكتب ومنذ افتتاحها في قصر مصطفي فاضل بدرب الجماميز بيتا للقراء والباحثين, وجامعة شعبية للمصريين والعرب والأجانب في شتي مجالات الثقافة ومختلف فروع المعرفة.
أخذت دار الكتب علي عاتقها مسئولية حفظ نسخ من كل كتاب يطبع داخل مصر (الإيداع القانوني) ابتداء من عام 1886م, وفي 19 يناير 1898م تقدمت نظارة الأشغال العمومية بمذكرة إلي مجلس النظار مرفقا بها مشروع أمر عال وخريطة بالأرض المقترح نزع ملكيتها لبناء الكتبخانة, نظرا لعدم الاتفاق مع أصحاب الأرض علي ثمنها, حيث ضاق قصر مصطفي فاضل بالكتب ولم يعد كافيا لحفظها, وفي 17 فبراير 1898م أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني أمرا بنزع ملكية الأرض لبناء الكتبخانة الخديوية مع تكليف نظارة الأشغال العمومية بتنفيذ عمليات البناء وفق القواعد المعمول بها في أرقي المكتبات العالمية, وفي أول يناير 1899م وضع الخديوي عباس حجر الأساس لمبني دار الكتب (الكتبخانة) في باب الخلق علي أن يخصص الطابق الأرضي لدار الآثار العربية (الأنتيكخانة أو المتحف الإسلامي فيما بعد) وبقية المبني للكتبخانة الخديوية التي تم الانتهاء من تشييدها في منتصف عام 1903م وفتحت أبوابها للجمهور في فبراير عام 1904م.
وبدأ التفكير في إنشاء مبني جديد علي كورنيش النيل تم افتتاحه للجمهور عام 1971م, ومنذ هذا التاريخ والدار تؤدي وظيفتها في موقعها الجديد بعد أن نقلت إليها كل مقتنيات دار الكتب بباب الخلق, ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي جاءت فكرة إعادة ترميم مبني باب الخلق, بهدف إعادة دار الكتب علي الخريطة الثقافية, وانتهي الخبراء إلي وضع مشروع مكتمل الملامح, بحيث تقدم دار الكتب علي كورنيش النيل خدماتها للباحثين في مجال الأوعية المعرفية المطبوعة من كتب ودوريات, بينما تتخصص دار الكتب القديمة بباب الخلق في التراث والمخطوط والبرديات والمسكوكات وأوائل المطبوعات, ويجدر بنا هنا توجيه الشكر للشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة بدولة الإمارات الذي ساهم مؤخرا في ترميم مبني الدار بباب الخلق وتطويره, كما شارك في افتتاحه.
وعبر مسيرتها تولي إدارة دار الكتب المصرية عدد غير قليل من رموز الثقافة والفكر والأدب, بدءا بالأجانب وصولا للمصريين, منهم مثلا لا حصرا أحمد لطفي السيد, منصور فهمي, توفيق الحكيم, صلاح عبدالصبور, سمير سرحان, جابر عصفور, ناصر الأنصاري, سمير غريب, صلاح فضل, أحمد مرسي, حلمي النمنم, ويرأسها حاليا د.هشام عزمي أستاذ المكتبات بآداب القاهرة.
وإذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسي, ومنذ توليه الحكم, قد استن تقليدا جديدا من حيث تخصيص موضوع معين أو قضية ما لكل عام, تنوعت ما بين دعم الشباب وتمكين المرأة والاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة وتطوير التعليم, ومن جانب آخر فإن الرئيس السيسي, وخلال زيارته لروسيا في أكتوبر 2018م, قد اتفق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين علي إعلان عام 2020م عاما ثقافيا بين مصر وروسيا, ما يتبعه من تنظيم المناسبات الاحتفالية التي تعكس التواصل الثقافي والحضاري بين البلدين والشعبين الصديقين, فإنني أدعو إلي اعتبار 2020م عاما للثقافة مستثمرين فرصة الاحتفاء بمرور مائة وخمسين عاما علي تأسيس دار الكتب المصرية, متمنيا أن تحتفي مؤسساتنا الإعلامية والثقافية والتعليمية والدينية بهذه المناسبة الثقافية, التي تعكس اهتماما بذاكرة الوطن والبحث في حاضره ومستقبله.