تمثل الصحافة, وغيرها من وسائل الإعلام, المسموعة والمرئية والإلكترونية, بالإضافة إلي شبكات التواصل الاجتماعي, إحدي مؤسسات التنشئة الاجتماعية المسئولة عن تشكيل منظومة القيم السائدة في المجتمع والحاكمة لسلوكيات أفراده, فهي تقوم بأدوار كثيرة ووظائف متعددة منها: الإخبار والإنباء والإعلام, التعليم والتثقيف والتوعية والتنوير, تشكيل الرأي العام والتأثير فيه, التسويق الاجتماعي والإعلان, التسلية والترفيه, المشاركة في عملية التنمية المستدامة, التأريخ والتوثيق.. وهي في مجملها وظائف مهمة لا غني عنها لأي مجتمع في عالمنا المعاصر.
ربما من هنا تأتي أهمية احتفال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالصحافة والدوريات القبطية, حيث مثلت الصحافة القبطية, وفي القلب منها الصحف الدينية, وعبر تاريخها الطويل, سبيلا للوعظ والتأمل والنصح والإرشاد, ونشر البحوث والدراسات الدينية والمقالات الروحية والموضوعات الثقافية والاجتماعية, من خلال النشاط الصحفي, ما يرتقي بثقافة المسيحيين الدينية, وهي من ثم تمثل نوعا من الخدمة الدينية لأبناء الدين وأتباعه, الذين استقبلوا هذه الصحف باهتمام واضح وإجلال كبير.
يرجع تاريخ الصحف الدينية إلي تسعينيات القرن التاسع عشر, حين اجتمعت مجموعة من العوامل والأسباب التي شجعت علي اهتمام المواطنين الأقباط بالمشاركة في صناعة الصحافة المصرية, ومن جانب آخر ظهور الصحف الدينية, من تلك العوامل والأسباب: بزوغ مبدأ المواطنة, نهضة مصر الثقافية والتعليمية في عصر الخديو إسماعيل, ميلاد الصحافة الأهلية وانتشارها, انتشار التعليم وتنامي العمل الثقافي والأدبي بين المواطنين الأقباط, بالإضافة إلي الاهتمام بنشر الثقافة الدينية, خاصة وأن الدين يرتبط بمجمل حياة الإنسان وتفاعلاته المختلفة وعلاقاته المتنوعة داخل المجتمع.
ومؤخرا احتفلت الكنيسة بالصحف والدوريات القبطية عموما, مع التركيز علي خمس دوريات منهم علي وجه الخصوص, بدأت منذ سنوات بعيدة واستمرت إلي اليوم, تساهم بنصيبها في الخدمة والتوعية والتثقيف والتنوير. هذه الصحف هي مجلة (مدارس الأحد) التي صدرت عام 1947م عن بيت مدارس الأحد بشبرا, وتحتفل هذا العام باليوبيل الماسي لها, مجلة (مرقس) التي صدرت عام 1959م, وكان الأرشيدياكون الدكتور وهيب عطا الله (نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والبحث العلمي والثقافة القبطية) قد بدأ مسيرتها, وهي تواصل صدورها عن دير القديس أبو مقار, مجلة (رسالة الكنيسة) التي أصدرها القمص ميخائيل جرجس- كاهن كنيسة الملاك ميخائيل بدمنهور- عام 1963م, مجلة (الكرازة) التي أصدرها نيافة الأنبا شنودة أسقف التعليم والتربية الكنسية والمعاهد الدينية (قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد) في يناير 1965م, ثم أصبحت لسان حال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والصوت الرسمي المعبر عنها, ويواصل مسيرتها حاليا قداسة البابا تواضروس الثاني, بالإضافة إلي جريدة (وطني) التي أصدرها الراحل الأستاذ أنطون سيدهم في يوم الأحد 21 ديسمبر 1958م كجريدة عامة ذات اهتمام خاص بالشأن المسيحي والقبطي, وقد تعاقب علي رئاسة تحريرها عدد من كبار الكتاب, حيث مثلت سجلا تاريخيا لأحداث الكنيسة والوطن منذ صدورها في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين.
وتزامل هذه الصحف مجموعة من القنوات الفضائية (أغابي, سي تي في, مي سات, كوجي), وعدد من المواقع الصحفية الإلكترونية, ومحطات إذاعية علي شبكة الإنترنت مثل راديو أسقفية الشباب.
لقد قام علي تلك الصحف وغيرها من وسائل الإعلام أناس غيورون, أنقياء وأتقياء, انتموا للكنيسة والوطن, في محبة صادقة ورغبة حقيقية في العطاء وخدمة الإنسان.
واليوم تستمر تلك الصحف, الورقية والإلكترونية, وغيرها من وسائل الإعلام, رغم الكثير من الصعوبات والتحديات, الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية, التي تتعلق بظروف صناعة الصحافة وطبيعة الجمهور, ومنافسة شبكات التواصل الاجتماعي, وغيرها من صعوبات معقدة ومتشابكة, ما يفرض علينا البحث في سبل دعم تلك الصحف, لضمان استمراريتها, وانتظامها في خدمة جمهور القراء, الباحث عن المعرفة الأصيلة والرصينة, من خلال تطوير المحتوي والاهتمام بالتفسيرات العميقة, وحث الجمهور علي عودة الاهتمام بالقراءة باعتبارها أساس الثقافة وطريق المعرفة.
وعودة إلي احتفالية الصحافة والدوريات القبطية: مائة وخمسون عاما في خدمة الكنيسة والوطن, فقد جاءت تحت رعاية قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية, وإشراف نيافة الحبر الجليل الأنبا مكاريوس أسقف المنيا, وهنا تحية واجبة وشكر مستحق من أعماق القلب لكل من شارك وساهم في الإعداد لتلك الاحتفالية.
ولعلي أدعو هنا توزيع كتاب الاحتفالية علي مكتبات الكنائس والأديرة, وتنقل معرض الصحافة والدوريات القبطية بين الإيبارشيات, حتي تعرف الأجيال الجديدة جانبا مهما من دور المواطنين الأقباط في صناعة الصحافة, كما أدعو إلي تنظيم مؤتمر علمي يبحث في حال الإعلام المسيحي بمختلف وسائله وأشكاله وأدواته, وإعداد دراسة يقوم بها فريق عمل, تستفيد من الماضي وترصد الحاضر, وتتطلع للمستقبل.
============
د.رامي عطا صديق
[email protected]