منذ أيام قليلة, وبالتحديد في 5 ديسمبر الجاري, مر عام علي رحيل الأب الحبيب القمص مرقس كمال (1951 ـ 2020م), كاهن كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة, ومؤسس مكتبة سان مارك المتخصصة في التاريخ. شاءت الظروف أن أقابل القمص مرقس عام 2019م, في مكتبة سان مارك, بدعوة كريمة من الصديق العزيز رامي جمال, مين عام المكتبة, حيث دار حوار, شاق وطويل, مع أبونا مرقس عن أهمية القراءة وبالأخص المؤلفات والدراسات التاريخية, باعتبار التاريخ ذاكرة الأمة, يحمل لنا الدروس والعبر, نتعلم منه ونستفيد, يحقق التواصل بين الأجيال, وبه نفهم حاضرنا ونفكر في مستقبلنا.
كنت أسمع عن أبونا مرقس منذ سنوات بعيدة, وعن شغفه بالقراءة وحبه الكبير للتاريخ, ومن ذلك اهتمامه بتأسيس مكتبة متخصصة في تاريخ العالم ومصر والكنيسة, وعنايته بتزويد المكتبة بكل جديد, وحرصه علي زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب سنويا, لاقتناء الكتب وإيداعها مكتبة سان مارك التي تتيح خدماتها مجانا لكل الباحثين والقراء, وقد تم افتتاحها في 3 ديسمبر 2018م, وتضم ما يقرب من أربعة آلاف كتاب ورقي وعشرات الصحف, وآلاف الكتب الإلكترونية, في كثير من فروع التاريخ
وظني أن مكتبة سان مارك هي أول مكتبة متخصصة في التاريخ, خارج المؤسسات التعليمية والكليات والمعاهد اللاهوتية, وأعرف جيدا أن قداسة البابا تواضروس الثاني مهتم شخصيا بهذه المكتبة, حيث كانت مكتبة سان مارك محل حوار مع قداسته أثناء الاجتماع الأول للجنة التاريخ القبطي التي أتشرف بعضويتها, في ذلك الاجتماع حكي البابا تواضروس عن أبونا مرقس ومكتبة سان مارك بود شديد, وطلب من لجنة التاريخ الاستفادة من تلك المكتبة.
كما أذكر أن الصديق رامي جمال حكي لي أن أبونا مرقس قرأ باهتمام شديد الكتاب الذي ألفته, منذ سنوات, بالاشتراك مع الصديق رامي, عن القديس الأنبا أبرآم سقف الفيوم والجيزة الذي تنيح سنة 1914م بمناسبة الذكري المئوية لوفاته (1914 ـ 2014م), وقدمه نيافة الأنبا أبرآم مطران الفيوم, وكيف أن أبونا مرقس قرأ هذا الكتاب رغم كبر حجمه في ساعات قليلة, مع الكثير من كلمات التشجيع والتحفيز علي الاستمرار في تقديم هذه مثل الأعمال.
قابلت القمص مرقس كمال, وتكررت اللقاءات, حيث كان يشركني , من باب تواضعه ومحبته, بعض الأفكار والأحلام والتطلعات, فعرفت فيه كاهنا فاضلا وأبا بارا بأولاده, رأيت فيه باحثا عن المعرفة, ومثقفا أصيل المعرفة, خادما مينا, يبحث ويدقق, يستفسر ويسأل, في تواضع كبير وأدب جم.
كان كريما كثير العطاء, ويرحب بأسرتي, زوجتي رينيه وأطفالي يوسف ودانيال وفادي, يسأل عنهم باستمرار, يستضيفنا في مكتبة سان مارك القريبة من مدرسة أطفالي, فكثيرا ما كنا نتردد علي المكتبة عقب انتهاء اليوم الدراسي, فيستقبلنا بترحاب شديد, ويهدينا بعض المؤلفات, ويعطي أطفالي علب الألوان ويسمح بطباعة صور التلوين.
كان القمص مرقس كمال يشجع أولاده وبناته علي القراءة والبحث والمعرفة, من خلال تنظيم المسابقات في الكتاب المقدس, مع إتاحة المكتبة لكل القراء والباحثين, وقد عرفت من أبونا مرقس أنه يحلم بتأسيس عدد من المكتبات النوعية والمتخصصة, فبعد أن أسس مكتبة متخصصة في التاريخ, بدأ الإعداد لمكتبة ثانية في الكتاب المقدس, كما كان يفكر في تأسيس مكتبة ثالثة للأسرة.
أحلام كثيرة وتطلعات كبيرة كان القمص مرقس كمال يرغب في تحقيقها, وأتمني هنا أن تواصل هذا العمل أسرته الفاضلة, الدكتورة أزهار تادرس الأستاذة بمعهد الرعاية والتربية, وابنيه العزيزين جورج وجون, وفريق عمل المكتبة (الإخوة والأخوات رامي جمال وتريزا فاروق وجينا رزيقي وهناء حبيب وفيفيان موريس), تحت توجيه القمص كيرلس ساويرس الذي يشرف حاليا علي المكتبة.
الأب الحبيب القمص مرقس كمال… ودعا لروحك الطاهرة وسلاما لك في فردوس النعيم, نشكرك علي كل ما بذلت وخدمت وضحيت, نعدك بأن نسير علي دربك في الاهتمام بالقراءة ونمو المكتبة, ولعلي أكرر هنا ما كتبه الشاعر والكاتب الكبير الأستاذ فاروق جويدة في جريدة (الأهرام), عدد الجمعة 10 ديسمبر الجاري, تحت عنوان الثقافة.. تاج مصر الحقيقي, حيث طالب في مقاله بضرورة أن تعود المكتبة للبيت بجانب جهاز الكمبيوتر والتليفزيون والمسلسلات والأفلام, وأن نغرس في أطفالنا حب القراءة…
وربما تكون ذكري القمص مرقس كمال فرصة جيدة لأن نجدد الدعوة للكنائس والديرة والمراكز الكنسية الثقافية بأن تهتم بمكتبات الاطلاع وأن تعود القراءة, رغم التحديات المعاصرة والتطورات السريعة والمتلاحقة التي فرضتها شبكة الإنترنت, سبيلا رئيسا للثقافة وطريقا أساسيا للمعرفة, في حياة الخدام بجميع المراحل والمستويات, والمخدومين علي مختلف أعمارهم واهتماماتهم, بالإضافة إلي جماعة الباحثين وجمهور القراء, لتتربع عادة القراءة مرة ثانية علي عرش الثقافة والمعرفة, نستلهم هنا روح الأب الوقور القمص مرقس كمال الذي آمن بالثقافة وأحب المعرفة, لأنه مكتوب فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية, وهي التي تشهد لي (إنجيل يوحنا 5:39).
ولد في 17 أبريل 1951م, سيم كاهنا في 6فبراير 1987م, وقمصا في 17 أغسطس 2012م, واستراح في الرب 5 ديسمبر 2020م