I تراث مصر الحضاري ـ علي تنوعه ـ لا يحتاج إلي الكثير من الكلام لإبرار تميزه وثراءه, وإن كانت الهوية الحضارية لمصر تحتاج إلي الكثير من العمل للحفاظ عليها وتأكيد وجودها في هذا العصر الملبس في نواحيه الثقافية.
ليست الحروب الآن هي تلك التي نراها في ساحات المعارك التقليدية وحسب, إنما أخطرها تلك التي تدور في كل الساحات المتعلقة بالثقافة وتغييرأنماط السلوك, واختلاف الأكاذيب لتشويه التاريخ, وسرقة عناصر الهوية الثقافية لبلدان عريقة, استهدافا لخلق عالم مغاير تماما لما عرفناه عند ميلادنا و الذي حدثنا عنه آبائنا والذي درسنا تاريخه في الكتب المدرسية.
لابد لعجلة الزمن أن تدور, هذه هي سنة الحياة, وتلك هي قوانين الطبيعة, ومن الظاهر لكل عاقل أن عالما جيدا بالمعني الحرفي للكلمة يولد الآن, وهو العالم الذي سيعيشه أبنائنا.. شئنا أم أبينا, سيكون هو حاضرهم ومستقبل إبنائهم, لن نعيشه معهم, ولن يتبقي منا سوي ذكريات في ألبومات صورهم, والقيم التي سنورثهم إياها, وعناصر هويتهم شديدة العمق, التي من الواجب عليهم أن يطوروها ويوظفوها لما يناسب العصر الجديد, هذا هو الميراث الحقيقي, وهذا هو ما يجعل الشعوب تستمر دون أن تكون مسوخة الهوية.. مجرد منفذين لقوانين وخادمين لمصالح شعوب أخري هي الأقوي.
حروب الهوي هي الأخطر الآن, وهي التي تترجم الآن وستكون كذلك أيضا في المستقبل, لمصالح اقتصادية عالمية, أيا كانت المتحكم فيها, لذا فإن الحماية الحقيقية لمصالح وطننا تفرض علينا أن نعمل علي ترسيخ معالم هذه الهوية, والحفاظ عليها من السرقة والتشويه, وتثبيت أسس عمدائها, وتطوير ميراثها ليناسب العصر الحالي والمستقبل, والأهم من كل ذلك.. أن نزرعها في عقول ونفوس أبنائنا, ليتعلموها, وسيتوعبوها, ويدركوا عظمتها وأهميتها, ويدافعوا عنها, ويصنعون بأيديهم عناصر توظيفها لأجل أن تعيش غدا وللأبد.
يخترق العالم بيوتنا كل يوم.. بل كل لحظة, شئنا ذلك أم أبينا, من خلال شبكة الإنترنت المخيفة والعظيمة في الوقت نفسه, من خلال تعليم أجنبي في كثير من عناصره, فهل لنا أن نصدر للعالم أيضا ما نريد من ثقافة وعلوم وقيم؟
لما لا؟ إن لدينا بالفعل مانقدمه, وإنكار ذلك هو ظلم بين للنفس, ينقصنا الكثيبر من العصرنة.. هذا صحيح لكن لدينا أيضا أدواتنا وأولها.. المحاولة بعزيمة وإصرار. من أهم نقاط قوتنا هم المصريون في الخارج, هؤلاء الذين اختاروا مجابهة صعوبات التغرب كي يحققوا أحلامهم, وقد انتبهت الدولة المصرية لذلك وبدأت عدة مشروعات للواصل مع المصريين الناجحين في المهجر, لأجل أن يقدموا علمهم وجهدهم وخبراتهم لأبناء وطنهم الأم, وهو أمر منطقي وعملي وشديد الفاعلية.
أسعدني كثيرا مؤخرا, خبر تولي شريف سبعاوي, أول نائب من أصل مصري في البرلمان الكندي, لمنصب نائب وزير السياحة والرياضة والحضارة والتراث الكندي, ليس لأنه مصري حقق الإنجاز للمرة الأولي وحسب, بل لأنه أيضا وبرغم سنين غربته التي تجاوزت الربع قرن, لايزال يحلم بالأفضل لوطنه الأم مصر, ولديه بالفعل مشروعه في إطار إحياء الهوية المصرية والحفاظ عليها لدي المهاجرين المصريين في كندا, وربطهم بجذورهم الثقافية, وفي الوقت نفسه تقديم كل ما يخص الحضارة والهوية المصرية للشعب الكندي, فقد حاز من خلال موقعه في البرلمان عن ولاية إنتاريو علي الموافقة, بتخصيص شهر يوليو من كل عام شهرا للتراث المصري في كندا, وهو الأمر الذي بدأ نواته في مايو الماضي, وأثمر في يوليو, من خلال عدة أنشطة تفاعلية, ثم حاز الموافقة أخيرا في نهاية أكتوبر الماضي, ثم توجت جهوده باختياره لمنصب ناذب وزيرة السياحة والرياضة والحضارة والتراث الكندي, وهو ما سيساعده علي تحقيق نيته لتعزيز التعاون في القطاع السياحي بين مصر, وكندا, والتأكيد علي الاتصال المباشر بين البلدين وفقا لتصريحاته.
سبعاوي ليس قصة كفاح وحسب, وإنما هو أيضا دليل علي الدور المهم الذي تلعبه الجالية المصرية في كندا.
يقول سبعاوي: إن الإحتفال بالحضارة المصرية خلال عام 2020, سيكون الأكبر في تاريخ كندا من حيث الاحتفال بالجاليات, وطالب الحكومة المصرية باستغلال هذا الحدث من أجل الترويج للسياحة والاثار المصرية بالخارج وتبادل التجارة والخبرات بين البلدين. وهذا هو أقصده تحديدا: هذه هي القوي الناعمة, القادرة علي تأكيد تواجدنا خارج الحدود, والتواصل مع العالم, بأدوات الزمن الحالي, فلو أن الشعب الكندي بزطيافه وتنوعه الثقافي نتيجة لتواجد الجاليات المتعددة فيه, أصبح قادرا علي الاطلاع علي رموز ثقافتنا, والتعرف إلي هويتنا في موعد ثابت من كل عام, أليس هذا هو عين القوة.. والانتصار في معارك زمن العولمة؟
فاطمة خير
[email protected]