في الأول من ديسمبر 1863 ولد قاسم أمين في أسرة أرستقراطية ودرس الحقوق ثم سافر في بعثة إلي فرنسا, وتوثقت علاقته بكل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في هذا السياق التاريخي كانت مصر تعصف ذهنها الجمعي وتتصارع بين نخبتها الأفكار دون تراشق أو سباب أو حتي تخوين بذات الدرجة التي شهدتها فيما بعد من قرون.
كانت مصر تنظر إلي أوربا بحثا عن النهضة وتدقق بداخلها لتتمسك بالأصالة وبين هذا وذاك كان جدل وصراع فكري مشتعلا ومستمرا.
وعادت البعثات العلمية التي أوفدها الخديوي إسماعيل وخلقت حراكا في كافة المجالات سواء التعليم أو الصحافة أو الإصلاح الديني ونشطت حركة الترجمة وفي عام 1889 ألقي قاسم أمين بحجر في مياه الثقافة المصرية والحياة الاجتماعية بكتابه المرأة الجديدة والذي أحدث دويا عنيفا وتعرض صاحبه لنقد شديد وعنيف وتباري عدد من الكتاب والرموز الفكرية بالرد علي قاسم أمين حيث هاجم الزعيم مصطفي كامل الكتاب بعنف واتهمه بأن الكتاب جاء لصالح فكر الاستعمار وأفكار الغرب المحتل كما قام الاقتصادي الكبير طلعت حرب بالرد علي قاسم أمين في كتابه فصل الكتاب في المرأة والحجاب واعتبر طلعت حرب أن ماجاء في كتاب المرأة الجديدة إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تمناها أوروبا متفقا تماما مع رأي مصطفي كامل.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك حيث تباري محمد فريد وجدي في الهجوم علي قاسم أمين في كتاب المرأة المسلمة أفرده للأفكار التي تضمنها كتاب المرأة الجديدة وظل الجدل يتصاعد والصراع الفكري يحتد بين قاسم أمين الذي دعمه بقوة كل من الإمام محمد عبده وأحمد لطفي السيد بينما كان في مواجهة أفكار قاسم أمين عشرات الكتاب الذين تباروا في الهجوم علي قاسم أمين وأطروحاته في كتابه الأول. وبعد عامين تواصل خلالهما الجدل نشر قاسم أمين كتابه الثاني المرأة الجديدة الذي أكد فيه علي نفس أفكار الكتاب الأول دونما تراجع بل علي العكس كان أكثر تماسكا رغم قسوة الهجوم وتعدد جبهاته.
ورحل قاسم أمين في عام 1908 تاركا خلفه ثورة فكرية واجتماعية وأفكارا للأسف ما تزال مثار جدل وشك لدي البعض رغم تراكم حركات النضال النسوي الذي توجته فيما بعد هدي شعراوي وسيزا نبراوي وغيرهما من رموز العمل الوطني والإصلاح الفكري والاجتماعي.
كانت حلقات التنوير المصرية متصلة في سياقها تتعرض لانتكاسات وعثرات من حين لآخر لكنها تعود لتبدأ من جديد.
تعرضت لعدة ضربات موجعة خلال القرن الماضي ربما كان أهم تلك الضربات هو نشوء جماعات وتنظيمات ومفكرين يميزون علي أساس الدين والعرق ويسعون لإقحام الدين في السياسة مما أدخل المجتمع المصري في حالة استقطاب دائم وحاد.
نتحدث هنا عن حلقات التنوير التي تباعدت وانفرطت وصارت محاولات فردية هنا أو هناك دونما سياق جماعي يتبلور في رؤية للتنوير.
صرنا نستخدم المصطلح دائما دون فعل حقيقي له حتي فقد قيمته وتراجع تأثيره.
هذا التنوير المفتري عليه تحول من جهد فكري في كل مجالات المعرفة بغرض ترسيخ قيم المواطنة وحرية التعبير والدفع بالمجتمع نحو مزيد من التقدمية في سبل الحياة ليصبح متهما من خصوم التنوير ورواد العودة إلي الخلف ومناهضي المواطنة ومكبلي حرية التعبير والحق في الاجتهاد وإعمال العقل.
نحن إذن وبلا شك نعيش مرحلة شديدة التصحر منذ عقود.. أصيبت الذهنية العربية بالتكلس وانشغلت في قضايا صغيرة وجزئية وغابت القدرة علي إدارة حوار وخلق معارك فكرية خلاقة وبناءة ومتجددة.
قد تكون هناك عوامل ساهمت بالإضافة لما ذكرناه.. من أهمها تردي أحوال التعليم بشتي أشكاله ومستوياته وخروج أجيال متتالية تلقت تعليما دون المستوي ساد فيه التلقين عن النقد والتجربة.
أيضا لعب الإعلام دورا خطيرا في تغييب الوعي وربما تزييفه وعزل عن المشهد رموز الفكر ورواد العقلانية وانتشر نماذج الشعوذة والإتجار بكل شيء وتسليع كل القيم.
كذلك ذابت ما تعرف بـ ـ النخبة ـ في متاهات الذاتية والنرجسية واللهث وراء مكاسب ذاتية ضيقة تلك المكاسب التي تحققت للبعض فأثارت لعاب البعض الآخر.
وتعتبر النخبة الفكرية المصرية هي إحدي مشكلات توقف حلقات التنوير وانكماشها وسيظل الأمر هكذا طالما ظلت النخبة مخترقة ومهترئة ومعزولة عن التأثير سواء كان هذا بفعل عوامل موضوعية في تركيبة المجتمع وسياساته أو بفعل عوامل ضعف ذاتية داخل تلك النخبة.
يستثني من ذلك بالطبع تلك النماذج الفردية والتي تضيء سماء عقولنا كل حين وتتحمل ضريبة ذلك الدور الذي تقدمه بكل شرف وإباء ولا تتراجع عن دورها رغم كل العقبات مثلها مثل ما فعل جدنا العزيز قاسم أمين.