يقولون في بلاد الشام العين بتطعم قبل التم (أي أن العين تتذوق الطعام قبل أن يصل إلي الفم), ذلك لأنهم ذواقة يتذوقون الطعام, والحياة والجمال, وأؤمن جدا بأن العين تتذوق الجمال بكل أشكاله, وأنها سبيلنا لـ استطعام الحياة, لكن لكي يحدث ذلك. فقبلها يجب تغذية العين بهذا الجمال حتي تتعرف عليه حين تقابله.
للجمال صور متعددة, ولمنابعه أيضا روافد متعددة منها الفنون التشكيلية بكل فروعها, وبكل تأكيد فإن المصريين يتمتعون بهبة إلهية في هذا الشأن نراها متجسدة علي جدران معابد أجدادهم الفراعنة, فهذا الفن العظيم الجميل الراقي.. والخالد, يجعل الحديث في هذا الأمر لا يحتاج إلي إثبات: المصري فنان بطبعه, موهوب بالفطرة, فيما يخص الرسم والنحت, وهنا يطرح السؤال: كيف تتواجد هذه الفجوة الكبيرة ما بين شعب موهوب بالفنون التشكيلية والنحت, وتشهد آثاره علي ذلك, تلك التي يعتبرها العالم قبلة الفن القديم, وبين حاضر قبيح لا يدل علي وجود أي ذائقة فنية أو روح جمالية, بل تشوه واضح لكل القيم الجمالية يتخذ أشكالا عدة, هذا أمر لم يعد سرا, بل أصبح لا يمكن إخفاؤه, ويعاني منه الجميع بشكل أو بآخر.
لكن لأنه لا معني للبكاء علي اللبن المسكوب, ولأن المشكلات لا يمكن حلها بالنوايا الحسنة والأمنيات الطيبة وحسب, إذا فمن باب إضاعة الوقت أن نظل نبحث عن الأسباب التي أدت إلي ذلك, بالطبع هذا أمر مهم يساعد في منع المشكلة من جذورها في المستقبل ووقف استمرار توالدها, ولكن لنعمل علي الجانب الآخر بكل جدية لإزالة كل هذا القبح من حياتنا اليومية, لماذا نقبل بأن نعيش في محيط يسيطر عليه القبح؟ أي ألم هذا وأي عذاب! أي عقاب نبتلي به أنفسنا بسبب أخطاء من سبقونا, أو من يعاصروننا لكنهم لا يدركون حجم الكارثة: حجم تأثير القبح علي الروح والعقل, حجم تأثيره علي العلاقات بين الناس بكل أشكالها, علي تقديرنا لذواتنا, علي إحساسنا بالفرحة والبهجة والسلام, علي طبيعة الأجيال القادمة التي ستنشأ وسط هذا القبح, يا سادة.. فاقد الشيء لا يعطيه, وفاقد الحس الجمالي لا يبني مجتمعا لائقا بأفراد أسوياء.. مجتمع يسوده السلام المتعة والبهجة ليسا رفاهية بل هما ضرورة إنسانية.
ما الحل إذا؟ بالتأكيد هناك حلول كثيرة لو فكرنا خارج الصندوق, واحد منها بسيط للغاية: كم كلية للفنون الجميلة والتربية الفنية في مصر سواء في الجامعات الحكومية أو الخاصة؟ كم أكاديمية خاصة تعلم الفنون للهواة؟ كم محترف قد تقاعد ويرغب في ممارسة نشاط يستغل به وقته وطاقته ويعود عليه بالتقدير المعنوي والأدبي؟ كم موهوب يرغب في ممارسة ما يحب وإظهار موهبته للجميع ليحظي بالتقدير, كل هؤلاء فنانون طاقتهم الجبارة والمهمة واللازمة لمجتمعنا في هذه اللحظة هي طاقة معطلة ومهدرة, فقط لأنه لا أحد ينتبه لها ولإمكانية توظيفها في تحويل شوارعنا وجدراننا وكل ملامح مدننا إلي الأجمل, إلي لوحات فنية تجعل الخروج إلي الشارع مسألة غير منفرة, تجعل الانتظار في ازدحام حركة المرور ليس أمرا ثقيلا علي النفس, تخيلوا معي لو أن كل شوارع مدن مصر تحولت إلي لوحات تشكيلية كبيرة, لو أن ميادينها تحولت إلي متاحف لفنون النحت, وكل ذلك لن يكلف الدولة سوي الخامات المطلوبة للتنفيذ, والتسهيلات اللازمة, لأنه بالتأكيد الشباب الذي يبدع بمشروعات رائعة في كليات الفنون يكون مصيرها الإهمال, لن يتواني لو أن مشروعات تخرجه ستصبح مادة لتزيين الميادين والشوارع, لا يمكن أن يرفض فنان خروج إبداعه للعلن, شباب كليات الفنون طاقات مهدرة, الفنانون الذين لا يجدون منصات للعرض طاقات معطلة, الهواة في أكاديميات التدريب الخاصة أفكارهم دوما متجددة, كل تلك المواهب والطاقات بما تقدمه من إبداع هي موارد صالحة لتجميل المدن المصرية كافة, والحفاظ علي الهوية البصرية المصرية مع الاحتفاظ بخصوصية كل مدينة, ولا يحتاج ذلك سوي لقرار بمشروع قومي يلتحق به من يرغب, وتتوافر من خلاله التسهيلات لكي يجمل الفنانون المصريون وطنهم.