لا أذكر يوما تمنيت فيه أن أكون سوي أنثي, ولا أذكر أنني تذمرت يوما علي كوني جئت إلي هذه الدنيا أنثي, لا أذكر يوما رأيت التمييز في عيني والدي بيني وبين أخي الأكبر, ولا شعرت يوما أنني عبء علي أسرتي يريدون التخلص منه, فقط لكوني أنثي, بالرغم من أنني أنتمي لعائلة جذورها وفروعها في قلب صعيد مصر, ذلك الصعيد الذي يخرج منه النبلاء والشرفاء والشهداء والأبطال, ذلك الصعيد الذي يضرب به المثل في النخوة والشهامة والعدالة هو ذاته الصعيد الذي خرجت منه روائح الظلم الكريهة, للإناث باسم الحفاظ علي الأرض, وعودة الميراث للولد, أما البنت فلها زوجها, وتحت دعوي أن البنت أقل نضجا من الولد, وخيرها لرجلها وليس لأبيها, واستنادا لتلك المبررات جار البعض علي حقوق فتيات, وسيدات, كثيرات, فاستولوا علي ميراثهن, وشردوهن, وقاطعوهن, ليس بوازع من الاعتزاز بالابن ولفظ الابنة, وإنما بوازع من الطمع المستتر وتحت فكرة خلف البنات, وخلف الرجال.
في قرية أبو جلبان في المنيا تسكن امرأة في الأربعينات من عمرها, تزوجت صغيرة مثل سائر بنات جيلها في صعيد مصر, هي تجسيد لحالة الظلم البين لسيدات لم ينجبن بنين, لنا مثال في ابتسام التي أنجبت ابنتين, عاشت في منزل أسرة زوجها, في إحدي قري المنيا المجاورة, لم تكن تطمع ولا تطمح في شيء سوي المعاملة الحسنة, لكنها لم تجدها, بل ساءت وتطورت العلاقة بينها وبين أهل زوجها بعد أن أنجبت الابنة الثانية, فهم لا يحبون خلف البنات, ولا يريدون توريث البنت, ومن معاملة سيئة إلي قطيعة كان الحال, أما الزوج, رجل طيب القلب, قليل الحيلة, يحب زوجته وابنتيه, لكنه يريد ارضاء أهله, حاول التوفيق, لكنه لم يفلح أبدا, أصيب بالضغط من كثرة الثرثرة والمشاكل, كان لديه صالون حلاقة, خرج ذات يوم إلي عمله ولم يعد, أصيب بانفجار في ضغط الدم, ومات صريع المشاكل وكأنه المسئول عن اختيار نوع الجنين الذي ينجبه, والأسرة التي لفظت بنت الابن لأنها أرادت الولد, فقدت الابن أيضا.
مرت أيام الحداد, لكن أيام الطمع والعناد لم تمر, استكثر الأشقاء علي زوجته ابتسام, العيش في كنفهم, وتربية ابنتيها بينهم, وطلبوا منها الرحيل, لكنها لم ترحب, فإلي أين تذهب وابنتها الكبري عمرها ثلاث سنوات, والصغري ثمانية أشهر, صرخت في وجه شقيق زوجها الأكبر: مش هامشي من هنا ده حقي وحق بناتي لكنه ضحك ضحكة سخرية وتركها, قائلا: بكره تشوفي حقك ياأم حق, أغلقت ابتسام بابها, وناحت نواح الباكين علي الأحياء قبل الموتي, إذ شعرت بالغدر, ورأت في عيني شقيق زوجها أنه يضمر شرا لابنتيها, فلم تتفوه بكلمة وأثرت السلامة.
ابتسام تستعيد الماضي وهي تروي لنا وحروفها تقطر مرا: كنت صغيرة جدا ومش فاهمة, قلت لهم هابلغ عنكم الحكومة, أنا لي ميراث, وبناتي لهم نص البيت ده, أزاي ترموني في الشارع, تاني يوم لقيت الباب بيخبط, ودخل أخو جوزي فتح الدولاب ورمي كل هدومي أنا والبنات من الشباك, وقال لي بره, وطلع ورق وقال لي: أهو جوزك باصم وبايع نصيبه قبل ما يموت, مالكمش حق هنا, ده بيتنا, وإحنا ما بنربيش بنات حد, ولا بنحب خلف البنات من أصله, ولو ماطلعتيش من هنا هانطلعك بفضيحة, وهانلبسك مصيبة ودي حاجة سهلة أوي, والناس بتحب الفضايح أوي.
تكمل ابتسام قائلة ربك والحق ياأستاذه, أنا خفت, عندي بنات, لو سمعتي اتخدتشت, مافيش واحدة منهم هاتتجوز طول العمر, لميت حاجتي ورحت بيت أبويا, هو صحيح فلاح علي أد حاله, لكن شالني ورعاني وراعي بناتي, والكنيسة كمان ساعدتني في تعليم البنتين, الكلام ده كان سنة 1997, بعدها رفعنا قضية علشان الميراث, ففوجئنا أن ورقهم صحيح, جاتني صدمة, وبقيت أسأل نفسي أزاي ياربي جوزي يبيع لهم البيت, ده كان عارف طمع أخواته وخايف منهم, ده كان فاهم كل شيء, كان بيحبني, وكرهت حزني عليه, وسكتت وخسرنا كل حاجة, ومرت السنين, وأخو جوزي إللي هددني عمي بعنيه, واتحسر علي نفسه ومات, وجه أخوه الكبير استولي علي شقته, وطرد مراته وعياله زي ما عمل معايا, ولما اختلفوا مع بعض ظهر المستور, وعرفت أن إخوات جوزي الاتنين دخلوا علي جوزي في ساعة الغسل, وبصموه علي الورق وهو ميت, أخدوا بصمته وهو مفارق الحياة ياروح قلبي, علشان يجوعوا بناته, ويشردوهم, الطمع عماهم, وطبعا لما عرفت أن جبروتهم وشرهم وصلهم لأنهم يسرقوا بصمة ميت, والميت ده شقيقهم, شكرت ربنا إني خرجت من بينهم سليمة, وإني ربيت عيالي بعيد عنهم, وفرحت أن جوزي طلع مظلوم, وماباعش حق بناته.
وتستمر ابتسام: بعدها عرفت أطلع معاش من الحكومة, كان أربعين جنيه وحاليا 1200 جنيه, وجوزت البنت الكبيرة, لكن أبويا وأمي صحتهم ساءت جدا ومالناش حد خالص, ورغم أني علمت بناتي تعليم عالي وربنا قدرني, إلا أني في ضيقة شديدة لأني هاجوز بنتي الصغيرة في 9 سبتمبر, ومافيش فلوس لأي حاجة, العريس ولد محترم ومستور, ومتعلم, وتحمل حاجات كتير لكن إحنا علينا الأجهزة الكهربائية والمطبخ, والسجاد, ومافيش معايا ولا جنيه, فكرت أشتري بالقسط وأسدد من المعاش, بس خايفة ماقدرش الحاجة غالية جدا, والبنات الاتنين هايكونوا إتجوزوا, والمعاش هايقل النص أزاي هاسدد وهل بعد العمر ده أعرض نفسي للسجن علشان أجوز بناتي بعد ما قاسيت عليهم وحافظت علي سمعتهم؟
بعد ما يقرب من ربع قرن, لا تزال ابتسام تعاني أثار الطمع الملفوف بغلاف التمييز بين البنت والولد, بعد ربع قرن من سرقة بصمة زوجها الميت, والاستيلاء علي حقوقه, وحقوق ابنتيه, لا تستطيع ابتسام تزويج ابنتها, وشراء جزء من جهاز عروس لا تتعدي تكلفته 50 ألف جنيه, في حين أن ميراثها يصل إلي مائة ضعف ذلك علي الأقل, ما بين أملاك وأراض, ومحال, ولكن الله لا ينسي أحد, ابتسام فقدت المال لكنها ربحت نفسها وإبنتيها, خارج أجواء الشر والطمع, فمرحبا بالبصمة علي بياض التي أنقذتها من أنياب الأشرار, وجحيم الصراع علي المال فقط يؤرقها قرب موعد الزفاف ولم تف بما عليها, هي لا تريد سوي أن تظل مستورة كما كانت طوال عمرها بعيدا عن اللهاث خلف من يبسط يديه أو يضمها, تريد حفظ ماء وجهها وابنتيها, بعيدا عن كشف غطاء الستر عن كرامتهن.