يقولون في مصر إن الغربة.. تربة, مثل شعبي لطالما تردد في ذهني كلما أطلت سيرة الغربة, فأنا علي قدر حبي للسفر لكني أخشي أن أتغرب, ولا أمتلك الشجاعة اللازمة لكي أحيا عمري في الخارج, وأشفق علي من تدفعه الظروف لذلك, وأعتقد أنه في حالة اضطرار بالتأكيد, واحتمال كبير أنني مخطئة للغاية, وأن خوفي من الغربة هو السبب, لأن كثيرا من الأشخاص يذهبون إلي الخارج بحثا عن أهداف حقيقية وبطموح كبير لا يصنف تحت بند الاضطرار وحده, كما أن كثيرين يفعلون ذلك بنجاح كبير, يدفعهم للاستمرار وليس بحثا عن تأمين مستقبلهم المادي وحسب.
للتوسع الكبير في وسائل التواصل والاتصال مزايا (كما لها عيوب أيضا من وجهة نظري), لكن من أفضل مزاياها هو منحنا القدرة علي الاطلاع علي التجارب التي ما كنا لنعرفها لولا سطوة وسائل الاتصال, ومنها تجارب الأشخاص الناجحين في الخارج/ الغربة, وهي تجارب تناسب عصرنا بمعني الكلمة, فهو عصر لا يليق فيه استخدام وصف أن العالم أصبح قرية صغيرة.. المسألة أصبحت أكثر تداخلا من ذلك, فكل إنسان في مكانه الجغرافي أصبح له بعد عالمي ما, فيه ما يتعلق بالفن, أو الكرة, أو الأدب, أو خدمة المجتمع/ البشرية, ومن هنا يصبح الحديث عن الغربة التقليدية غير ملائم, فالسفر لم يعد غربة بالمفهوم التقليدي.
في مقال سابق هنا, تحدثت عن اغتراب الأجيال الجديدة داخل أسوار الوطن, فما بالنا بخارجه, اغترابا يتمثل في وجهة نظري في ابتعادهم عن هويتهم, وعدم إدراكهم لعناصرها, وعنوان ذلك تخليهم عن التحدث بلغتهم, وهذا أمر يقلقني للغاية ويقلق كل مخلص للهوية المصرية وكل من يحرص عليها, وأدعو دوما كل فرد في محله كي يحيي هذه الهوية وفقا للأدوات التي يمتلكها, وأعني بها كل, يتعلق بالثقافة بمعناها الواسع, وبالتراث الثقافي المصري المادي وغير المادي, هذا في داخل مصر وخارجها, فحتي بين أبناء المهاجرين المصريين لا يوجد ما يدعو للتخلي عن الجذور المصرية, ولنا في جاليات عدة حول العالم أسوة, فهم مواطنون ينتمون تماما لمجتمعاتهم الجديدة مع الحفاظ علي الولاء لأوطانهم الأصلية ولجذورهم, وعلي التمسك بعناصر هوياتهم دون الانفصال عن محيطهم الحالي, وهذا في حد ذاته قوة لهم.
ولحسن الحظ أن هذا الشهر (يوليو) يشهد حدثا مهما يتعلق بارتباط المهاجرين المصريين بوطنهم الأم, وتعريف الأجيال الجديدة منهم بعناصر هويتهم المصرية, ومن الرائع أن يحدث هذا في واحدة من أكبر مجتمعات المهجر للمصريين, وبجهود أكثر الجاليات المصرية نشاطا في الخارج, في كندا, حيث يشهد هذا الشهر وللمرة الأولي تحديدا في يوم 22 رفع العلم المصري في احتفالية خاصة, ضمن أنشطة الاحتفال بشهر يوليو شهرا للتراث المصري والحضارة المصرية في كندا, وذلك بعد إقرار البرلمان الكندي للقانون 106, والذي يخصص هذا الشهر للاحتفال بالحضارة المصرية, وهو قانون كان قد تقدم به في شهر يونيه الماضي النائب البرلماني الكندي عن أصل مصري شريف سبعاوي.
ونحن هنا أمام تكرار لكلمة أول: فالنائب عن مقاطعة أو نتاريو شريف سبعاوي, هو أول كندي من أصل مصري يدخل إلي البرلمان الكندي, وتخصيص شهر كامل من كل عام للاحتفال بالتراث المصري يتم لأول مرة, وكذلك رفع العلم المصري وعزف السلام الجمهوري في البرلمان الكندي سيكون للمرة الأولي! وكل ذلك يدعو للفخر والفرحة, والإحساس بالإنجاز علي أرض واقع ليس سهلا بالمرة.
أما إذا تصورنا أن جهودا تبذل علي قدم وساق للتحضير لكل ذلك, وللتوسع فيه بدءا من العام المقبل, فهذا شيء يدعو للسعادة بشكل كبير, والاطمئنان علي استمرار التواصل بين الجيل الجديد من أبناء المهاجرين ووطنهم مصر, وبين مصر وأبناء مهاجريها في كندا, لنا أن نتخيل أن المصريين في كندا ستتاح لهم فرصة زيارة 200 قطعة أثرية في ميسيسوجا وسيتفاخرون بها أمام أقرانهم, وهذه مجرد البداية للتأكيد علي تواصلهم مع هويتهم المصرية.. وتواصلنا معهم.