قداسة البابا شنودة الثالث عبقرية متفردة ناشطة في مجالها الديني وقيادتها الروحية, والعبقرية دائما تأتي بجديد وتثور علي الأفكار التقليدية وتبدع وسائل ناجحة تقتحم بها الحياة وتصل بالإنسان إلي الأفضل,كان بعض أو معظم رجال الدين القدماء علي اختلاف رتبهم ومذاهبهم يخطبون في الناس ويعظوهم فينكدوا عليهم حياتهم ويبصوروا لهم العالم كبؤرة شر ومكان للشيطان ولايوجد فيه إلا الألم والحزن والمرض ثم الموت والجحيم, كان الخطاب الديني يدفع في الناس الكره والخوف والبعد عن العالم والسلبية ولاشيء إلا الصلاة والصوم والمناسك الدينية التقليدية
جاء البابا شنودة ليقدم لنا الوجه الآخر للدين والتدين.
جاء يبتسم في وجه الناس ويضحك معهم ويقدم طرائف في أحاديثه إليهم, بل ويقول لهم نكتا حقيقية,جاء يعرفنا أن الدين ليس تجهما وخوفا ورعبا بل حبا وضحكا ومرحا أيضا فلم يخلقنا الله العظطيم الأبدي للحزن والمرض والألم والموت والعذاب,وإنما لكي نحيا ونستمتع بحياة الفضيلة ونشر الخير والحق والجمال لكي نحب بعضنا بعضا كما خلقنا بالحب ولننشر هذا الحب ونجعل من الأرض سماء ثانية لذلك خلق الله لنا الجنة أو الملكوت أولا قبل أن يخلق جهنم والعذاب.
كان البابا شنودة يحببنا في الحياة مادامت خيرة فاضلة جادة, بعيدة عن اللهو والكسل وعدم الطموح هذه فضيلة من فضائلة التي جاء بها ليخلصنا من بعض القدماء الذين-للأسف- ربطوا بين الدين وكراهية الدنيا والنشاط والعمل,وهنا أقول أن هناك بعض من الذين يهوون الكلام والوعظ والحديث إلي الناس وهم ليسوا معدون أو مستعدون أو مسلحون بالمعرفة يذهب هذا البعض إلي مناسبات العزاء لإلقاء كلمات عزاء ومجاملة أهل المتوفي فيتكلمون كلاما غريبا عجيبا وينشرون الجهل بين الناس ويسيئون للحياة والدين ويجب علي القيادات الدينية علي اختلافها منع هذا الهراء واتاحة الفرصة للمتحدثين الذين علي قدر من المعرفة الحقيقية والثقافة الروحية أن يقوموا بهذا الدور.
هكذا علمنا البابا شنودة أن التدين فرح وسعادة فالسيد المسيح قال:افرحوا وأقول لكم افرحوا فرحا مع الفرحين وبكاء مع الباكين التدين فرح والذهاب إلي بيت الرب فرح وعمل الخير فرح, والحياة الروحية الحقيقية فرح.
كان البابا شنودة
محملا للفرح والمرح..قال لي:أي مشكلة مهما كانت كبيرة لاتأخذ من وقتي أكثر من خمس دقائق أفكر فيها وأحاول إيجاد الحل وأتركها تماما كان يستخدم المرح وتعليقاته الساخرة للتخفيف من ضغط الحياة, جاء إليه مندوب من الأزهر يطلب منه إلقاء محاضرة فقال بأسلوبه المرح: أنا في الأزهر ما أقدرش أظهر..بهذا الأسلوب المرح وعلمه العظيم وثقافته الوفيرة وجديته المعهودة دخل قلوب الناس فأحبوه وارتبطوا به من كل الأجناس والأديان حتي لقب ببابا العرب, أحبه الشعب فبادلهم حبا بحب,وكان يشعر بسعادة كبيرة وهو بينهم يستمع إلي تصفيق الرجال وزغاريد النساء, وهو القائل أن الزغرودة مثل تغريدة الطيور تعبير عن الحب والفرح, أعرف أنه كان مستمعا جيدا للموسيقي المصرية والعالمية وحافظا مستمتعا لكل الألحان الكنسية,وهو يشعر باحترام لكل التنوع البيولوجي للحياة فيحترم الإنسان والحيوان والنبات.
ركنا في دير الأنبا بيشوي مع قداسته وفجأة ظهربورص ضخم في حجم القطة وذعر البعض وصاحت النساء فنظر إلي البورص وقال, هذه الحشرات مهمة للتنوع البيئي ولها مهمة كبيرة وترك البورص حيا يسعي كذلك كان يربي بعض الكلاب ويقضي بينهم بعض أوقات فراعه هو احترام لكل المخلوقات,كان البابا شنودة حكيما في تصرفاته نضجت حكمته من قراءاته الروحية المتعددة وثقافته المتنوعة الثرية وكانت كلماته الحكيمة يرددها الجميع ويتمسكون بها أيضا مثل ربنا موجود كله للخير, ومسيرها تنتهي, وهناك قول آخر كان يقوله لي دائما ويعجبه لحكيم الصين كونفوشيوس 551-479 ق,م هو: بدلا من تلعنوا الظلام أضيئوا شمعة,وهذه حكمة جميلة مفيدة تدعوا الناس إلي الايجابية وعدم السلبية والعمل علي التنوير والسير في النور, هناك حكاية مهمة تعبر عن حكمة البابا شنودة في علاقته بالآخرين كان الأقباط المسيحيون يتضايقون من مهاجمة فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي للمسيحية ولشخص السيد المسيح من خلال التليفزيون ولعل أشهر قصة لهذا الهجوم كانت ماحكاه الشيخ عن قصة الخمس عذاري الحكيمات والجاهلات كان الأقباط يتضايقون ويحزنون ويشتكون لقداسة البابا,وكعادته كان قداسته يبتسم في وجوههم ويهديء من غضبهم لم تكن هناك علاقة بين البابا والشيخ ولم تكن هناك وسيلة للتعبير عن غضب الأقباط طيرت الأخبار في ذاك الوقت خبر مرض الشيخ الشعراوي وذهابه إلي لندن لإجراء عملية جراحية انتهز البابا شنودة هذه الفرصة الذهبية وأرسل لفضيلة الشيخ اثنين من الأساقفة في لندن لزيارته ومعهم هدية وأمنيات البابا الشخصية ودعواته له بالشفاء والسلامة والصحة كان هذا الموقف من قداسة
البابا رائعا ومطبقا للتعاليم وفلسفة المسيحية وبهت فضيلة الشيخ أمام هذده الزيارة والهدية غير المتوقعة من الزهور الجميلة مرت الأيام واستجمع الشيخ صحته وعاد إلي القاهرة لكنه تحفظ بعد ذلك في أحاديثه التليفزيونية ولم يهاجم الأقباط ولا المسيحية, وهكذا استطاعت حكمة البابا شنودة حل المشكلة ببساطة.
للحكاية بقية طريفة أيضا في القاهرة تقابل الشيخ الشعراوي مع صديقه الدكتور علي السمان المفكر المصري الكبير ومهندس الحوار الإسلامي المسيحي العالمي وقد حكي لي هذه الحكاية شخصيا كما كتبها في كتابه الضخم.
أوراق عمري من الملك إلي عبد الناصر والسادات عندما تقابل الشعراوي مع الدكتور علي في القاهرة قال له الشيخ: البابا شنودة قام بواجب كبير معي وأنا في المستشفي في لندن ولا أدري ماذا أفعل لأشكره هل أكتب إليه أم أتصل به تليفونيا؟ قال الدكتور علي السمان مبتسما لن يكفي كل ذلك فالموضوع يستحق أن تزوره وهنا سأله الشيخ في براءة هل تعرف أين يسكن البابا شنودة؟ أجاب الدكتور علي في الكاتدرائية طبعا,قال الشيخ الشعراوي وهو ينظر بعمق للدكتور علي: يعني مطلوب مني أن أعدي العتبة! ويشرح الدكتور معني هذه الجملة قائلا الذين يعيشون في الريف يعرفون معني أن يعدي الإنسان العتبة معناها أن كل ما كان في الماضي تطوي صفحته وتبدأ صفحة جديدة تماما ويصمت الدكتور علي ليقول لي:
يجب أن اذاكر الدور المهم الذي قام به الدكتور محمد علي محجوب وزير الأوقاف السابق للاعداد لهذا اللقاء المهم كان الدكتور علي السمان صديقا صدوقا للبابا شنودة أيضا وهو الذي قال عنه أنه جعل كلمة المودة المفتاح السحري لكلا العلاقات الإنسانية البناءة لهذا كان الدكتور يلقب البابا شنودة بعبقري المودة.
في يوم اللقاء التاريخي ذهب الدكتور علي السمان إلي الشيخ الشعراوي واصطحبه إلي الكاتدرائية المرقسية الكبري بالعباسية حيث كان الاعلام المصري والعربي والعالمي بسجل هذا اللقاء التاريخي الذي أذاب جليدا من الثلج بين الشيخ الشعراوي والأقباط وفتح البابا هدية للشيخ عبارة عن كتاب مهم عن الإعلام وعندما سؤل الشيخ الشعراوي عن نقاط الخلاف مع البابا قال: نقاط الاتفاق أكثر وكبيرة لاتعطي الفرصة للخلاف.