خمسون عاما إلا قليلا تمتعت فيها بصداقة قداسة البابا شنودة الثالث, منذ كان أسقفا عاما للتربية الكنسية, ثم اعتلائه كرسي مارمرقس الرسولي ليصبح قداسة البابا شنودة الثالث البابا المئة والسابع عشر. ذكريات كثيرة متلاحقة في ظروف وطنية متباينة نتيجة صداقة وطيدة خالصة, الذي يعرف البابا شنودة لابد أن يحبه ويحب الجلسة معه, والاستماع إليه, والمودة الحانية والكرم الوفير الذي يشعر به.
هو عبقرية مصرية بمعني الكلمة فالعبقري هو الذي يأتي بجديد في شتي مناحي الحياة, وهو المبدع لحلول جديدة في شتي المشكلات, كان بالإضافة لكونه البابا والفم الذهبي والمعلم شاعرا يحفظ 1500 بيتا من الشعر غير شعره وإبداعه في هذا المجال.
كانت لغته العربية رصينة سليمة فصحي لم يخطئ أبدا في اللغة العربية وهو يتحدث علي الهواء مباشرة دون إعداد سابق.
تعرفت علي نيافة الأسقف العام الأنبا شنودة عام 1964 وكنت طالبا بكلية الآداب جامعة القاهرة, وكان مشرفا علي أسرة الكلية تحت اسم: أسرة القديس أثناسيوس. كنا نحبه ونستمع لكل كلماته بشغف, وكان وجهه المشرق المبتسم يشجعنا علي الحوار والمناقشة, مناقشات طويلة مستفيضة معه ولأنه مثقف رفيع المستوي غير علمه الديني وتخصصه في التاريخ كان يفحمنا بردوده, وأذكر أنني بالذات كنت أهوي الفلسفة وأقدم له أسئلة صعبة كثيرة في هذا المجال, وكانت إجابته دائما مقنعة مما يجعل الجميع يحبه ويرتبط به كأب وأستاذ وبحر من العلم.
بعد تخرجي من الجامعة التحقت بالعمل في الإذاعة المصرية, وكان لي شرف أن أكون أول مذيع قبطي يفكر في عمل برامج ومسابقات دينية مسيحية في الإذاعة الرسمية, وكان يرأس إذاعة الشعب وقتذاك الأديب الكبير فاروق خورشيد الذي شجعني بحسه الوطني المرهف علي ذلك, فقدمت أول مسابقة للإنجيل في إذاعة الشعب عام 1969 وكانت جائزتها السفر إلي الفاتيكان لمدة أسبوع بدعوة من بابا روما البابا بولس السادس, وكان طبيعي أن أطلب مساعدة الأسقف العام الأنبا شنودة, فقد أعد الأسئلة وأشرف علي المسابقة بصفة عامة.
كذا كانت علاقتي مع الأنبا شنودة قوية, وعندما تقدم للبابوية وأختير بابا الكنيسة كنت المذيع الوحيد الذي أجري معه حديثا في نفس يوم الرسامة, وأخذت وكالات الأنباء والصحف بعض ما جاء فيه ونشرته.
كنت بعد ذلك المذيع الوحيد الذي يغطي أخبار قداسة البابا شنودة الثالث ولم يحاول أي مذيع آخر أن يعمل ذلك بل المفاجأة أن زميل قال لي: ماذا تفعل انتظر طردك من الإذاعة إن شاء الله!..
هكذا كان مفهوم البعض لمن يتحدث عن المسيحية في الإذاعة, والغريب أن يكون هذا شعور حتي المسيحين العاملين في الإذاعة, وحتي أكون صادقا مع نفسي فلم تكن هذه تعليمات أو قرارات أو أوامر عليا, بل كانت مجرد تقاليد وحسب, لذلك عندما تقدمت بالفكرة واقتنع المسئول فقد الأمر إلي الجهات العليا وتمت الموافقة بسهولة وقدمت مسابقة الإنجيل مرتين 1969 و1975, أما البرامج فكنت أقدم برنامجا دينيا خاصا في كل المناسبات, عيد الميلاد, عيد القيامة, عيد السيدة العذراء, عيد مارجرجس وهكذا.
كان البابا كيرلس السادس قد بارك البداية ثم استكمل البابا شنودة دوره في الرعاية, وهنا أعرض أول مشكلة قابلتني في الإذاعة في أول قداس للبابا شنودة علي الهواء 1972.
كان المعتاد قبل تولي البابا شنودة, أن يرسل قداسة البابا كيرلس ومن قبله كلمة العيد أو الخطبة مكتوبة للإذاعة قبل إذاعة القداس بعدة أيام لقراءتها واعتمادها, عندما جاء قداسة البابا شنودة طلب مني المسئولون الكلمة التي سيلقيها في ليلة العيد, ذهبت لقداسته وطلبتها منه فقال لي: كلمة إيه إللي عايزنها؟..
كلمة العيد التي ستلقي خلال القداس علي الهواء يا سيدنا.. قال قداسته: أنا لا أكتب كلاما يقرأه غيري.. ثم أنا لا أعد كلمات محاضراتي أو كلماتي, أنا أتكلم تلقائيا.. ثم لماذا يتحدث عني أحد؟ لماذا لا أتكلم أنا؟
عدت إلي المسئول في الإذاعة, وكان مسئولا صغيرا غير واثق من نفسه كما أعرفه وقلت له ما قاله البابا شنودة. وكان رده غير موضوعي أو سليم.. فقال: يبقي القداس لن يذاع!
قلت له يجب أن تعرض الموضوع علي السادة المسئولين الكبار, وفعلا عرض الموضوع وشرحت القضية للمسئول الكبير الذي رحب وقال ما المانع نحن نحب ونثق في البابا, ومرت أول أزمة دون أن يشعر بها أحد وأذيع القداس الأول لقداسة البابا شنودة 1972, وأصبح هذا تقليدا متبعا بعد ذلك أن يتحدث قداسته تلقائيا دون إعداد, فهو المعلم والمفوه وصاحب الفم الذهبي.. قلت له يوما. تعرف يا قداسة البابا إنك مولود لكي تكون إنسانا عبقريا..
ابتسم وقال ماذا تعني؟..
قلت أعني أن قداستك إن لم تكن البابا شنودة.. كنت ستكون عالما من علماء مصر, أو مفكرا كبيرا, أو أديبا مثل طه حسين أو العقاد أو سلامة موسي, ابتسم قائلا: متشكر يا أخ فايز..
كنت أزور قداسته في كل أسبوع مرتين أو أكثر, وكان يتحدث إلي في أمور الحياة العامة إن لم يكن اللقاء من أجل تسجيل للإذاعة أو عمل ريبورتاج صحفي.
كنت أجلس مع قداسته في مكتبه في الدور الأرضي من المقر البابوي, وكانت تشغل مساحة المكتب مكتبة عامرة فخمة منظمة, كنت أحب أن أتصفح كتبها, وعندما عرف أنني أؤلف كتابا تحت عنوان: عباقرة هزموا اليأس.. أهداني كتابا عن هيلين كيلر 1880-1968م معجزة الإرادة الإنسانية التي لم تكن تري أو تسمع أو تتكلم واستطاعت الحصول علي أكثر من درجة دكتوراه وكانت تجوب العالم تدافع عن أصحاب الحالات الخاصة.
كان حديث الكتب يجمعنا دائما, الطريف أن قداسته قرأ كتابا للدكتور طه حسين أثر في حبه للقراءة ونفس الكتاب شجعني علي ذلك, هو كتاب: قادة الفكر. لم يكن قداسة البابا شنودة الثالث مجرد رجل دين كبير أو بابا, بل كان عبقرية إنسانية في مجالات شتي, نشطا نشاطا موفورا, قارئا لآلاف الكتب العلمية والأدبية والفنية, غير الكتب الدينية التي قضي حياته في رحابها, من هنا كانت شخصيته غنية جذابة محببة ودودة مفكرة رائدة.
وللحديث بقية..