احتفلت عائلة كمال الملاخ بذكرى مرور ثلاثين عاما على رحيله، يوم الأحد الماضي. كمال الملاخ موهبة كبيرة تصل إلى العبقرية، فقد عمل مهندسا معماريا، واستاذا جامعيا وكاتبا صحفيا وعالما فى الآثار وله فى المكتبة العربية 35 كتابا في الآداب والفن. لم تكن حياته سعيدة دائما أو سهلة دائما فقد قابل صعاب كثيرة لكنه كرجل صعيدي عرف كيف ينتصر على المشاكل والصعاب التي يتعرض لها لكي يتفوق دائما ويكون الأول فى مراحل الدراسة وكلية ضباط الاحتياط وفي كلية الفنون الجميلة أيضا.
تخرج الملاخ فى كلية الفنون الجميلة عام 1943 وعين مدرسا بها لتفوقه.
سألني صديقي الشاعر ممدوح عفيفي لماذا تقولون عن كمال الملاخ أنه عالما فى الآثار مع أنه خريج كلية الفنون؟
قلت لصديقي هذا السؤال مهم لأن الناس لا تعرف حياة الملاخ جيدا ومن هنا ياتى هذا التساؤل والاستغراب. فعلا درس كمال الملاخ فى كلية الفنون وعين مدرسا فيها في قسم العمارة، ويحكى لنا هو فى كتابه(قاهر الظلام) عن قصة حياة عميد الأدب العربي طه حسين حكايته مع الآثار فبعد تعينيه بالكلية فوجئ بعميد الكلية يلغي جدول محاضرته ويوقفه عن العمل دون أي سبب واضح، وكانت ثورة الملاخ عارمة على الظلم الذى أصابة ومحاولة تحطيم مستقبله، وبينما الملاخ فى هذه الحال السيئة إذ برسالة تليفونية له تطلب منه مقابلة المستشار الفني لوزارة المعارف العمومية وقتذاك- وزارة التربية والتعليم الآن، وهو الدكتور طه حسين، وعندما ذهب لمقابلته قابلة الدكتور طه مقابلة جيدة وقال له: أنني سمعت عنك الكثير وانك شاب موهوب بل إنك بالنسبة لعمرك نابغة، ثم طلب منه أن يقبل رأيه في الإتجاه إلي الآثار للدراسة والعمل بها، قال الملاخ: مالي أنا والآثار وقد عقدت العزم على أن أكون مع الأيام أستاذا للعمارة والفن.. قال العميد طه حسين: وهل الآثار إلا عمارة وقنابل أكثر.. واستطرد الدكتور يقول.. انت تعلم الحزبية.. انه متصل بوزير هو نسيب له.. وهو يستطيع أن يسود دوسيهك في غيبة من العلم بدلا من أن يشق لك طريقا مع نور الثقافة أكثر.. تعود أن ترى في مستقبل الأيام من يفتح لك طاقة نور.. وهناك من يجد لذة في أن يغلقها. هناك الذي يبني ويقيم، وهناك الهادم الذي يحطم.. لقد رأيت الظلم كثيرا، وعانيت منه أكثر، ولا أحب أن يظلمك أحد، وانا أعلم عن كفاءتك الكثير ولكنك تفاجئني بعنادك الذى لا اعيبك عليه فانت من الصعيد كمال أعلم.. أنت من أسيوط..
يضحك الدكتور طه حسين حين يقول.. يعني (جبلي) عنى شوية، أنا صعيدي مثلك ولكن قبلك زمانا ومكانا. يرد الملاخ مجاملا أستاذه.. ومكانة أيضا ياسيادة العميد: قال الدكتور إذن اسمعنى إذا كانت لي مكانة عندك.. كلها 3 أشهر وأرجعك اذا لم تحب الآثار.. إني أريد أن لمصرجة الآثار ولا أتركه إلى أبد الأبدين مع الأجانب.. أنت اولى بحضارة بلدك.. ألم يقولو أكبر منك بيوم بعلم أكثر منك بسنة.. وأنا عليم بأن حضارة مصر إنما هي أبقى على أيدي أبنائها.. قال الملاخ: ولكن متى أدرس الآثار؟
تدرسها بعد الظهر فى الجامعة. معهد الآثار تعمل الماجيستير فيها والدكتوراة إذا اردت مع العالم(دريتون) وهو صديقي وسيكون مديرك أيضا.. إني أنتظر منك ولك الكثير. اقتنع الملاخ بنصيحة العميد واتجه إلى العمل ودراسة الآثار.
وبعد ثلاثة أشهر قابلة الدكتور طه وسأله: هل تريد العودة إلى كلية الفنون. فرفض قائلا: لا انا اشكرك. لقد اخترت طريقي مع حضارة بلدق وساظل مع عمالقة الزمان.
حصل الملاخ على درجة الماجيستير فى الآثار وفقه اللغة المصرية القديمة واستعد لعمل الدكتوراه لكن ظروف الحياة واهتماماته الثقافية والصحفية حالت دون ذلك لكنه عشق الآثار وعمل فيها بجانب عمله الصحفي في جريدة الأهرام والفنون والسينما وغيرها. فى مجال الآثار اكتشف مركب الشمس عام 1954، كما اكتشف أول كوبرى فى التاريخ، وهو أول مصري يرهم أهرام مصر وأبو الهول وبرج العرب وجزيرة فيلة، كما أعاد ترميم وتشييد لقدم مسلة فى مصر، وكان استاذا فى حضارة مصر وأثارها فى الجامعات العالمية وعضو مجلس إدارة هيئة الآثار.
ولم تشغله الصحافة ولا السينما والفنون عن الآثار فقد عشقها والسبب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.. لهذا فان الملاخ عالما فى الآثار فعلا ودرسا ومدرسا لها فقد درسها دراسة أكاديمية وبرع فيها.
فى الذكرى الثلاثين لرحيل عالم الآثار والكاتب الصحفي الفنان كمال الملاخ نذكره بالحب والخير والوفاء فقد كان انسانا حقيقيا يتحلى بالصدق وحب الجميع ومساعدة من يحتاج.. نشعر دائما أننا فى حاجة لو جوده في هذه الأيام الصعبة الرمادية.