كان رجال الدين دائما يختلفون مع الفلاسفة, ومن الصعب أن تحدث بينهم صداقة, لذلك أكتب هذه المقالات عن الصداقة بين الدين والفلسفة وأشهر الصداقات بينهما, ثم عن رجال الدين الفلاسفة في نفس الوقت.
لاشك أن نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا القبطية والثقافة والبحث العلمي في الكنيسة القبطية, هو من النماذج الواضحة لرجل الدين الفيلسوف, وقد بينا في المقالة السابقة مدي صداقته مع المتنيح البابا الأنبا شنودة, ونحاول أن نلقي الضوء علي حياته وأعماله.
ولد الطفل الواعد وهيب عطاالله جرجس في13أكتوبر1919 في أسوان وكانت ولادته صعبة عرضت والدته للوفاة, أما الأسرة فكانت طيبة ذات سمعة حسنة, الأب عطالله كان يعمل صرافا بإدفو, وكان روحانيا محبا لله مداوما علي الذهاب للكنيسة وقراءة الكتاب المقدس, وفي المساء يجلس مع أبنائه يحكي لهم بعض قصص الأنجيل والتعاليم المسيحية الجميلة التي يمكن أن يستفيدوا منها عندما يكبروا, أما الوالدة.. تفيدة عبد المسيح فكانت سيدة فاضلة محبة للمسيح والكنيسة وتداوم علي الذهاب إليها وتأخذ معها أبناءها, كانت أيضا محبة للغرباء والفقراء, وللقديسة العذراء مريم, هكذا كان الوالدان متدينين يعيشان في مخافة الرب وإرادته واستطاعا أن ينقلا هذا الإيمان القوي بالمسيح والتعاليم الدينية وحب الكنيسة إلي أبنائهم.
أحب الطفل وهيب الكنيسة وكان يذهب إليها مبكرا قبل أن تفتح فينتظر القرابني أو أبونا علي باب الكنيسة حتي يحضر أحدهما ويفتح الباب فيدخل الكنيسة في فرح عظيم ويتمتع بالألحان والترانيم الكنيسة والصلوات حتي يعود إلي المنزل, الطريف أنه كان يتأمل الكاهن وحركاته ويقلدها بعد ذلك, فمثلا كان في البيت عندما يصلي صباحا ومساء يضع يده علي رأس أفراد العائلة فيبتسمون لكنهم لايمنعوه حتي لا يحرجوه. هكذا عرف طفلنا أهمية الصلاة وممارستها يوميا في البيت, وحفظ التسابيح والترانيم, وكان أهل منزله يمارسون الصوم فمارس معهم الصوم قبل أن يعرف معناه وأهميته, وخلال صوم أم النور السيدة العذراء وجد طفلنا أمه تصوم علي الماء والملح كما كان يسمع, وعندما سأل عن معني ذلك عرف أن والدته لم تكن تتناول في هذا الصوم زيتا ولا شيئا مطبوخا, وكانت الأكلة المشهورة للصائمين بهذه الطريقةالزيت والملح, هي طعام الملوخية الجافة المخلوطة بالماء والثوم النيي والتي يطلق عليها اسمالشلولو.
التحق وهيب بالمدرسة الابتدائيةبإدفو 1927م وكان طفلا واعدا حقا, فكان يحب كل مواد الدراسة, ولا يفضل واحدة عن أخري,ولذلك كان متفوقا فيها جميعا حتي اللغة العربية التي كان يتعسر فيها زملاؤه, ومن الطريف أن مدرس اللغة العربية الشيخ المعمم كان يطلب من طفلنا تصحيح أخطاء زملائه, فكان يفعل ذلك وسط حب الزملاء واحترامهم, كان وهيب أيضا متفوقا في كل المواد ويحصل علي ما يقترب من الدرجة النهائية, كان وهيب وهو في هذه السن الصغيرة لا يحب الاختلاط, بل يمشي وحده في حوش المدرسة, وقد عرض عليه المدرسين أن يذهب ويجلس معهم بدلا من أن يظل متفردا, كذلك عندما أصيب ببعض الأمراض زاره بعض المدرسين في البيت, وهذا يوضح كيف كان طفلا واعدا محبوبا ذكيا نابغة.
كان وهيب طفلا متدينا يحب قراءة الكتاب المقدس بعهديه ويستغل العطلة الصيفية في هذه القراءة والصلاة الحارة العميقة, ويذكر أنه انكب علي قراءة سفر إشعياء وقرأه كله بل وقرأ الكتاب المقدس كله قبل أن يحصل علي الشهادة الابتدائية 1931م, ثم انتقل بعد ذلك إلي مدرسة حلوان الثانوية وأقام هذا العام 1931-1932 في القسم الداخلي بالمدرسة, كان يزامله في المدرسة, الرئيس جمال عبد الناصر طفلا تقدم الطالب وهيب عطاالله 1936 لامتحان شهادة الدراسة الثانوية العامةالبكالوريا قسم علمي, وكان قد كتب في استمارة الامتحان عن رغبته في الالتحاق بالكلية الإكليريكية علي الرغم من نجاحه بتفوق, وكان مجموعه يسمح له الالتحاق بكليات القمة مثل الهندسة والطب وغيرها.
تعجب جميع أفراد الأسرة بل وأصدقاء الصبي وهيب من اختياره للكلية التي أرادها علي الرغم من تفوقه ودخل الكلية في العام الدراسي 1936-1937, كالعادة أثبت وهيب تفوقه ونجاحه في سنوات الدراسة بالكلية الإكليريكية وكان ترتيبه الأول في جميع السنوات, وحصل علي بكالوريا الكلية عام 1939م بتقدير ممتاز, وأصدر الأرشيدياكون حبيب جرجس مدير الكلية الإكليريكية قرارا بتعيين الإكليريكي وهيب عطاالله معيدا بالكلية, ارتبط وهيب بالدراسات الروحية والحياة الدينية فمع دراسته بالكلية إلا أنه عمل بكنيسة مارجرجس بجزيرة بدران وأخذ القمص جرجس بطرس أبا روحيا له, ومع أنه كان قد انتهي من مرحلة الدراسة واختار الكلية الذي أرادها إلا أنه أراد أن يلتحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول وهي جامعة القاهرة الآن, وأصبح طالبا فيها وسجل اسمه 1940-1941 واختار الدراسة في قسم الفلسفة.
دراسة الفلسفة أرقي المعارف البشرية ونافعة للدين
وعن سبب اختياره مادة الفلسفة بالذات قال:أولا: فكلما كان رجل الدين ملما بعلوم عصره كان أجدر علي نقل أفكاره ومعتقدات الدين إلي عقول الناس بطريقة تفكيرهم وشعورهم, ولذلك كان علي رجل الدين أن يبذل قصاري جهده, في تزويد عقله بكل الثقافات والعلوم العصرية, فستكون له خير أداة لنجاح مهمته بين الناس.
ولما كانت الفلسفة تعد أرقي جميع المعارف والعلوم, فالإلمام بها أولي من غيرها وإن كان لا يغني عن غيرها.
ثانيا: لأن دراسة الفلسفة نافعة للعقل.
ثالثا: لأن دراسة الفلسفة نافعة للدين.
حصل الطالب وهيب عطاالله علي ليسانس آداب قسم الفلسفة بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف .1944 وبعد تخرجه أجاب علي سؤال ما الذي استفاده من دراسته للفلسفة وهو دارس للدين أجاب: لا أحد استفاد من دراسته في كلية الآداب كما أفدت, يقصد الجمع الموقف بين يقين الإيمان الثابتالفلسفة وبين حقائق العلم المتغيرة.
هكذا بدت موهبة أو عبقرية وهيب الفكرية وبداية حبه للفلسفة, كان شغوفا بالمعرفة ودراسة كل العلوم, ويفسح للمعرفة وقتا رغم أعماله الكثيرة وروحا نياته العديدة, وقد التحق بمعهد الآثار بجامعة القاهرة 1950 وحصل علي درجة الماجستير في الآثار المصرية واللغات القديمة بدرجة امتياز سنة1952, عين وكيلا للكلية الإكليريكية 1951م, وسافر بعدها إلي إنجلترا للحصول علي الدكتوراه, بعد أن كتب الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية, مذكرة تعزيز للمجلس الملي العام قال فيها:
لقد حادثت الأستاذ وهيب, فوجدته متشبعا بروح البحث العلمي, وخير كفيل لنجاحه هو حماسه العلمي, ومقدرته علي العمل بلا كلل, ونضوج عقليته واستعداده العام الذي يؤهله لأن يكون عالما ومؤرخا وفيلسوفا من الطراز الأول, كان موضوع رسالة الدكتوراهالكلمات اليونانية في استخدامها القبطي, وكان المشرف علي الرسالة العلامةفالترتل وهو عالم ألماني نمساوي خبير بالدراسات القبطية وأستاذ زائر بجامعة مانشستر, بعد أن قابل الأستاذ وهيب العلامة تل وتناقش معه في الرسالة وخطة ومنهج الدراسة عرض تل موضوع الرسالة وبعض من الحوار الذي أجراه مع الطالب وهيب وقبل مجلس إدارة جامعة مانشستر إعفاء وهيب من امتحان الماجستير وتسجيله للدكتوراه مباشرة, وهو خروج علي تقاليد الجامعة احتراما لوهيب ودراساته ونبوغه.
نستكمل مسيرة الأسقف الفيلسوف
الأنبا غريغوريوس في المقالة القادمة