شهر رمضان في مصر ليس شهرا يشهد طقسا دينيا فحسب, بل أن كل من زار مصر يعرف جيدا أن شهر رمضان فيها يختلف عن كل بلاد الأرض, فبالإضافة إلي الفرض الديني الإسلامي بصيامنهار رمضان, فإن ليل هذا الشهر يتحول إلي طقس احتفالي في كل يوم, ليس هذا فحسب بل إن الاستعدادات تبدأ قبل قدومه بعدة أيام, ينشغل الشباب والأطفال بتزيين الشوارع وواجهات البيوت, وتنشغل الأسر بشراء الفوانيس والياميش, الطقس الاحتفالي الرائع والممتع والمميز لم يغب عن أرض مصر في أي عام. لكن.. هل يقتصر هذا الطقس علي المسلمين فحسب؟ في إجابة هذا السؤال تكمن روعة الخصوصية المصرية, ففي مصر وحدها يشتري مسيحيون الفانوس, ويطلب أبناء مسيحيون من أمهاتهم تحضير الياميش, وفي مصر وحدها يشارك المسيحيون جيرانهم المسلمين تزيين الشوارع, في مصر وحدها يكون صيام رمضان للمسلمين والاحتفال به للجميع.
نعرف جميعا أن مجتمعنا قد واجه مشاكل كثيرة في السنوات الطويلة الماضية, بسبب أطراف استهدفت التأثير سلبا علي العلاقة بين عنصري الأمة المصرية, ولا يخفي علي أحد أن تشويها أصاب بعض جوانب هذه العلاقة, وأن أضرارا ليست هينة قد أصابتها, لكن المؤمن أن الله قد حمي هذه العلاقة بمحبته, وأسبغ حمايته علي أبناء هذه الأمة, ما جعلهم يتجاوزون عثرات كثيرة كان من الممكن أن تؤدي إلي نتائج بالغة السوء, بل أكثر من هذا إلي صراعات حقيقية تصطبغ بالدم إلي مدي لا يعلمه إلا الله, ونعود لنقول بأن الله حمي مصر بحبه لشعبها ومباركته إياه, وببركة القديسين والأولياء الذين يرقدون في أرضها. ونعلم كذلك أن عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر متجذرة في الشخصية المصرية, بفلسفتها العميقة والعصية علي المحو, ولا أنكر هنا أن تحديات حقيقية تواجه هذه العلاقة بسبب المحاولات التي استهدفت تدميرها, لكني أصر أيضا علي أن جذور العلاقة أقوي, وأنه برغم وجود جيل واحد علي الأقل لم يكتسب الثقافة المصرية التي تؤمن بوحدة عنصري الأمة, بسبب كل التجهيل الذي لحق به إما بسبب التجاهل المتعمد أو التشويه المتعمد من التعليم والإعلام, إلا أنه ولله الحمد لاتزال أجيال أخري نشأت وتربت في مصر العظيمة, التي شهدت العلاقة الحقيقية بين مصري ومصري لا تفرق بينهما الديانة, وجيمعهما احترام الديانتين.
هذه الأجيال هي قارب النجاة لأجيال جديدة, تكتفي بوصف مصري وحسب, لا فرق بين أفرادها بسبب الدين ونحن في عهد يناسب تماما العمل علي ذلك, علي تصحيح ما أفسده المغرضون, وعلي تثبيت أواصر الهوية المصرية, بجذورها السابقة علي الأديان, وبعمق تفاصيلها المستوعبة لأي اختلاف.
في هذا العام, كما في أعوام سابقة, يمكن رصد مساهمات مصريين مسيحيين في طقوس رمضانية, ففي مصر تجد من يوزع العصير والمياه وقت آذان المغرب, لمن لا يزال في الشارع لم يلحق بعد بالإفطار.. مسيحي, وفي مصر تجد مسيحي يقيم موائد الرحمن (موائد الإفطار المجانية) علي مدار سنوات متتالية, بل وربما ينتقل إلي مدينة أخري فيترك إكمال المهمة في مدينته لإخوته, ويقوم هو بإنشاء مائدة جديدة في مدينة نزل بها فأراد أن يعمرها بالخير والمحبة, في مصر يصوم مسيحيون مع مسلمين في نهار رمضان مشاركة لهم عن محبة, وفي مصر يتحمل مسيحيون شيفتات عمل النهار عن زملائهم المسلمون, وفي مصر يقوم مسيحيون بتجهيز وتعبئة شنط رمضان ويوزعونها علي أسر مسلمة, وفي مصر يشارك متطوعون مسيحيون في تنظيم وإدارة موائد رحمن.
الروح المصرية أقوي بكثير من محاولات التشويه, والشخصية المصرية أعمق بكثير من محاولات الطمس, والفطرة المصرية أنبل كثيرا من اكتساب صفات العدوانية ونبذل الآخر. كل ما في الأمر أن الصورة كي تكتمل علي حقيقتها تحتاج إلي مجهود كبير, لنفض التراب عن هذه الروح النبيلة والشخصية الفطنة, والأمر بالطبع يستحق, فهي مهمة تكتمل بها عملية الدفاع عن الهوية المصرية وتثبيت أركانها, في عصر تحارب فيه قوي عظمي هويات الشعوب.
وبسبب ما سبق فأنا واثقة أننا قادرون علي ذلك ودليلي علي ذلك ببسائة إنه في مصر: رمضان قبطي جدا.