قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (683)
قلبي مع القيادة السياسية المصرية وهي تمشي علي الحبل في تعاملها مع الحدث الذي هز العالم بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران, هذا الاتفاق المعروف باسم 5+1 والي ربط بين الخمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي أمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا والصين, بالإضافة إلي ألمانيا في جانب, وبين إيران في جانب آخر, والذي بموجبه تخلت إيران عن برنامجها النووي العسكري في مقابل رفع العقوبات والحصار الاقتصادي المفروضين عليها… خرجت أمريكا وحدها من الاتفاق وتركت شركاءها الخمسة معترضين علي موقفها ومعلنين نيتهم التشبث بالاتفاق والعمل علي إنقاذه بينما إيران تستشيط غضبا رسميا وشعبيا من أمريكا وتهدد بتنشيط برنامجها النووي مرة أخري إذا لم تنجح مجموعة الخمسة في ضمان استمرار سريان بنود الاتفاق بعد خروج أمريكا.
أعود إلي القيادة السياسية المصرية التي وجدت نفسها في موقف يقتضي قدرا كبيرا من الحكمة والدبلوماسية في التعامل معه للحفاظ علي توازنات دقيقة ترتبط بالمصالح الاستراتيجية المصرية, فالقرار الأمريكي جذب دولا مرحبة به ومؤيدة له مثل إسرائيل ومجموعة دول الخليج -السعودية والإمارات والبحرين- بينما فجر موجات من الاعتراضات والاستنكار بدأت بالرئيس الأمريكي السابق أوباما وامتدت إلي مجموعة الدول الأوروبية بقيادة إنجلترا وألمانيا وفرنسا ومعها روسيا والصين شريكاها في الاتفاقية مع إيران يضاف عليها سوريا وتركيا… ومن السهل لمن يتأمل فريقي المؤيدين والمعترضين أن يلاحظ أن الخروج الأمريكي أعاد ترتيب الأصدقاء والأعداء, فها هي مجموعة دول الخليج تقف مع إسرائيل (!!) والمجموعة الأوروبية تقف مع روسيا والصين (!!) وتتوحد مواقف تركيا مع سوريا (!!)… إزاء كل ذلك كان واضحا من تصريحات الدبلوماسية المصرية تحليها بالحكمة وضبط النفس فاكتفت بالإشارة إلي الحرص علي التزام إيران ببنود الاتفاقية النووية وما يخدم الاستقرار والسلام في المنطقة والعمل علي تحقيق وحدة سوريا ومصالح شعبها, دون الخوض في إدانة المسلك الأمريكي الذي وصفته روسيا بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي, ودون الخوض في إدانة المسلك الإيراني الذي وإن التزم بوقف البرنامج النووي العسكري إلا أنه انفلت في إثارة القلاقل والاضطرابات والنزاعات والإرهاب في الشرق الأوسط برمته, الأمر الذي كان السبب المباشر وراء الخروج الأمريكي.
وسط هذه الأحداث وتداعياتها التي تتطور بسرعة ويحبس العالم أنفاسه وهو يتابعها تحسبا لأي انفلات ينجم عن اشتعال معارك عسكرية في منطقة باتت مرشحة كمسرح مواجهة بين القوي العظمي في العالم, أفتح هنا ملفا مسكوتا عنه هو ملف الرئيس ترامب ساكن البيت الأبيض والمهيمن علي السياسة الأمريكية وقراراتها التي تهز العالم والتي يتفق الكثيرون علي أنها باتت تتصف بقدر غير قليل من الاندفاع والغطرسة والغرور والاستهانة بالأصدقاء قبل الأعداء!!
عند مجيء دونالد ترامب إلي السلطة ولدي إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2016 كنت ضمن معسكر المتوجسين من ذلك النموذج غير المسبوق بين الرؤساء الأمريكيين -علي الأقل الذين رأسوا أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية- وكتبت ملاحظاتي آنذاك وكان من بينها الآتي: فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية, ذلك الفوز الذي لم تستطع وسائل الإعلام أن تضبط نفسها ووصفته بالصدمة التاريخية لأنه جاء ضد كل التوقعات… فوز في انتخابات شهدت مفارقات وتجاوزات غير مألوفة أو مسبوقة, أولها أن ترامب نفسه نال ترشيح الحزب الجمهوري بالرغم من اعترافه بأنه لا يعرف شيئا عن السياسة, وثانيها أنه صدم الجميع بصلفه ولغته الفظة في تعامله مع خصومه حتي أن مناظراته مع غريمته في سباق الرئاسة هيلاري كلينتون عدت من أسوأ المناظرات في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية وأكثرها انحطاطا في الأخلاق, وآخرها فقدانه توازنه قبيل إعلان النتيجة النهائية وتلميحه إلي تزوير الانتخابات لصالح منافسته… والآن وقد فاز ترامب وأصبح رئيس الولايات المتحدة, هل تغلب طبيعته البوهيمية مقتضيات الرئاسة.. أم تنتصر مقتضيات الرئاسة علي طبيعته البوهيمية؟.
هذا ما كتبت وقتها, لكني رددت علي الهواجس التي انتابتني بأن صناعة القرار السياسي في أمريكا بالرغم من جلوس الرئيس علي قمة السلطة تعتمد بشكل كبير علي مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية وفريق ضخم من مستشاريه ومعاونيه… والآن أعترف أن دونالد ترامب خلال الفترة الوجيزة التي انقضت من سنواته الأربع في البيت الأبيض -يناير2017/ مايو 2018- ضرب عرض الحائط بكل الثوابت التي نعرفها وأزاح جانبا كل الآراء المخالفة لأهوائه وأطاح بكل من اختلف معه من مستشاريه ومعاونيه… ولا غرابة بعد ذلك أنه اتبع منهجا صادما في مواقفه وسياساته غير عابئ بحلفائه أو أصدقائه أو قواعد النظام العالمي أو القانون الدولي, وهذه أمثلة علي ما فعل:
** الانسحاب مناتفاقية المناخ التي وضعت معايير التزام الأسرة العالمية بعدم تلويث البيئة وعلاج أسباب الاحتباس الحراري وفي مقدمتها الاتجاه إلي إنتاج الطاقة النظيفة والتراجع عن طاقة الفحم.
** الانسحاب من اتفاق التجارة العالمية والتنكر لجميع شركاء أمريكا والمصالح المشتركة التي تربطهم تأسيسا علي مبادئ حرية التجارة والحد من الرسوم الجمركية وتجريم الممارسات الاحتكارية والإغراق… والغريب أن الاندفاع غير المحسوب للانسحاب الأمريكي تبعته سلسلة من التراجعات والاستثناءات والإعفاءات التي اضطرت أمريكا إلي اللجوء إليها لإصلاح ما فسد بينها وبين حلفائها.
** الانسحاب الصادم الذي نحن بصدده من الاتفاق النووي الإيراني وأقل ما يوصف به ما صدر عن أكثر من قيادة عالمية عبرت عن استيائها وتساءلت: كيف نثق بعد الآن في احترام أمريكا لتعهداتها واتفاقياتها طالما تستبيح الضرب بها عرض الحائط.
وهذا في حد ذاته يثير تساؤلا جد خطير: الآن ونحن مقبلون علي اجتماع الرئيس الأمريكي ترامب بنظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون من أجل وضع حد للحرب الباردة وسباق التسلح النووي في شبه الجزيرة الكورية, ألا يدرك ترامب ومعاونوه في البيت الأبيض أنه دق أول مسمار في نعش هذا اللقاء وما قد يسفر عنه من قرارات نتيجة انعدام الثقة في جدية والتزام أمريكا بعد انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني؟!!