حدث فى أحد اللقاءات التى كنا ننظمها فى أحد فنادق العين السخنة بمصر أن إرتدى شابا من المشاركين جلابية، وذهب إلى المطعم فتم منعه.. ولأن الأمر بدا غريبا، فقد لزم التدخل ودارت مناقشة مع المسئول فى الفندق إذا كان من حقهم منع النزلاء الذين يرتدون جلاليب، وعلى أى أساس، وخاصة وأن الجلابية هى الزى الأساسى لفئات عديدة سواء من داخل مصر أو من الدول العربية؟ ولأننا لم نتلق ردا مقنعا فقد تم السماح للشاب بدخول المطعم. ومن ناحية أخرى، أتيحت لى أخيرا الفرصة لأن أذهب إلى المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، وبالطبع كانت مشكلتى الرئيسية هى اضطرارى لإرتداء جاكت ورابطة عنق، وسألت نفسى إذا كانت الأوبرا تشترط هذا النمط من الزى، فماذا لو أن أراد أحد الأشخاص ممن لا يرتدون إلا الجلباب حضور عرضا بالأوبرا؟ هل سيتم منعه؟ ولا أعنى الزائرين من البلدان العربية لأنه ربما يكون لهم معاملة مختلفة، ولكن أعنى بالأساس أهل مصر من الريف أو الصعيد أو المدن الحدودية ممن يعتبرون الجلباب زيهم الأساسى! فهل إرتداء الجلباب ينطوى على استبعاد اجتماعى طوعى أو قسرى؟ لا أدرى، ولكن على ما يبدو أن هناك استبعاد لمن لا يرتدون سواه.
تذكرت هذه المسألة وأنا أقرأ مقالا قديما بعنوان “أزياؤنا” تم نشره بدون توقيع فى مجلة السفور عام 1915. وفى هذا المقال يتضح أن الجلابية كانت موضوعا للجدل المثار آنذاك حول الوافد والأصيل، أو ما بات يُعرف لاحقا بـ “الأصالة والمعاصرة”. فالمقال ما هو إلا دفاع عن الجلابية باعتبارها تعبيرا عن تراث يعود إلى عصر الفراعنة، فهى أكثر أصالة من الزى الإفرنجى المستحدث آنذاك، وكذلك “الجبة والقفطان” التى يرى الكاتب أنها أزياء جاءت إلى مصر فى عصر المماليك. يقول الكاتب فى مدح الجلابية بوصفها الزى الأصيل والأكثر شيوعا: “لعل الجلابية هى اللباس الوحيد الذى يحمل أثرا تاريخيا يجعلها من التقاليد المصرية القديمة، فقد كان المصريون القدماء يلبسون جميعا الجلاليب، سواء فى ذلك رجال الدين وسراة القوم وعامتهم..”.. ويشير إلى أن الجلابية عند قدماء المصريين كان تعكس النظام الاجتماعى التراتبى، فلكل فئة جلابيتها، فيقول: “فكان رجال الدين يلبسون جلاليب تكاد تصل إلى الكعبين، ويليهم الملوك والأمراء، وهكذا تقصر الجلابية حتى لا تصل إلى الركبتين عند العبيد والخدم”. وبما أنه لا يكفى فقط الاستناد إلى الشرعية التاريخية للجلابية فى الدفاع عنها، فقد سعى الكاتب إلى ذكر فوائد الجلابية ودى ملائمتها للمناخ المحلى، على عكس الملابس الإفرنجية الحديثة، أو حتى الجبة والقفطان وهو زى يعيق الحركة.
والآن فقد تغيرت الأحوال، وأصبحت الأزياء الحديثة هى الأساس، ومع ذلك فإن الجلابية ما زالت تحتفظ بوجودها بشكل كبير فى العديد من المجتمعات المحلية، أو بالنسبة لرجال الدين، وكذلك المنتمين لاتجاهات دينية، أو حتى عند قطاعات واسعة من المواطنين ممن يرتدون الجلابية إلى جانب الأزياء الحديثة. لكن المؤكد أن الجلابية خسرت معركتها فى مواجهة الأزياء الحديثة، هذه الأزياء التى تخسر هى ذاتها معاركها مع ذاتها، بفعل الموضة التى تغير الأذواق بوتيرة سريعة.
ولكن الملفت أنه ربما تحظى الجلابية بشرعية داخل بعض الأوساط، ولكن لا أحد يدافع عنها بوصفها عنوانا للأصالة، بل على العكس، فإن هذه الأصالة باتت عرضة للاقصاء والاستبعاد الاجتماعى. والغريب فى الأمر، أن حجاب النساء والذى لا يحظى بمشروعية تاريخية مثل الجلابية، هو الذى يتم تقديمه بوصفه تعبيرا عن الأصالة، رغم أن الحجاب مستحدث. ولذا أفترض أن الأصالة دائما فكرة غير محددة فهى تخضع لمسار التاريخ وتحولاته، وللذوق الاجتماعى وتغيراته، وللتأويل الدينى وتبايناته. ففكرة الأصالة فكرة مراوغة إلى حد كبير حيث توهمنا بأنها تحافظ على الثابت المحلى فى مواجهة الوافد المتغير، ولكن الجلابية تخبرنا، بأن الوافد يمكنه أن يفعل ما هو أكثر من إقصاء المحلى، فهو يقصيه ليصبح عنوانا لأصالة الأمر الواقع.