على مدار التاريخ لم تتوقف محاولات السيطرة على الجسد أو الأجساد، وقد كانت دائما سيطرة من قبل السلطة بتنوعاتها السياسية والاجتماعية والدينية، وثمة آليات مادية وغير مادية للسيطرة على الجسد، بداية من الأخلاق ومفاهيم الحلال والحرام، وحتى استخدام أدوات التعذيب والإيذاء البدنى. وفى العصر الحديث باتت استراتيجيات السيطرة على الأجساد أكثر إحكاما وذات طبيعة مؤسسية. والأمر لا يتعلق فقط بتقنيات وآليات السيطرة التى طورتها المؤسسات العقابية من أجل المعاقبة والتطويع من خلال الجسد، ولكن وفق ما تعلمنا من المفكر الفرنسى ميشيل فوكو، فإن الجسد بات محور التشكيل المؤسساتى الحديث، بمعنى المؤسسات الطبية والتربوية والاجتماعية على مختلف أشكالها. وكما تشتغل السلطة المؤسساتية على الأجساد بشكل عام، فإنالقسمة ذكر/أنثى تشكل محدد رئيسى فى عمليات السيطرة على الجسد سواء ماديا، من خلال الممارسات التقليدية الضارة كالختان، أو من خلال اعتبارات أخلاقية وثقافية كثنائيات الحلال والحرام، والطهارة والنجاسة، إلخ. وحتى عمليات التقسيم على أساس الجنس فى المؤسسات الحديثة، حاضرة فى استراتيجيات التعامل مع الأجساد.
إلى جانب عمليات السيطرة السياسية والاجتماعية التى تتطور بشكل سريع وبموازاتها، فإن العمليات الاقتصادية والمؤسساتية الحديثة خلقت واقع جديد لجعل الفرد طرفا فى استراتيجيات السيطرة على جسده أو جسدها، وتدفع المؤسسات الفرد إلى استبطان فكرة أنه يمتلك جسده وهو المسئول عن العناية به ورسم ملامحه، وأن النجاح فى هذه المهمة يحقق له مكانة جمالية واجتماعية، أما الفشل فيعنى ربما التهميش والاقصاء. وبالتالى فإن إنفلات الجسد من خلال السمنة والترهل لهو دليل قاطع، وفق المعايير القائمة، على فشل الشخص ليس فقط فى التحكم فى جسده، وإنما فى التحكم فى حياته الخاصة والاجتماعية. وبكلمات أخرى فإن فشل الشخص فى إدارة وتطويع جسده أو جسدها يعد خرقا فاضحا للصورة النمطية المأمولة. وحسب ميشيلا مارزانو(كتاب فلسفة الجسد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت): “يبدو الجسم الوحيد المقبول اليوم هو الجسم المسيطر عليه تماماً. فمنذ الصور الدعائية وحتى الشرائط المصورة (الفيديو-كليبات) فإننا نصطدم أساساً بعدد متزايد من التمثيلات التى تحيل كلها، بطريقة أو بأخرى، إلى فكرة “الضبط”: فعرض جسم مسيطر عليه تماماً يبدو البرهان الأكثر وضوحا على مقدرة فرد ما على تأمين ضبط حياته الخاصة. من هنا ضرورة “الحماية” سواء بالنسبة للنساء كما بالنسبة للرجال، من آثار الزمن وإعادة تصميم مظهرهم عبر الأنظمة االغذائية، والتمارين البدنية والجراحة التجميلية…..”. وبهذا المعنى يصبح التحرر من خصائص معينة فى الجسد كالتحرر من الوزن أو اللون أو الزوائد أو الملامح المخالفة للصور النمطية تعبيرا عن قدرة الشخص على إمتلاك زمام حياته. “ويستطيع المرء عبر النحافة أو أى شكل آخر للعناية بالجسم إثبات ضبط وسيطرته على ذاته، فى حين أنه يعلن عجزه عبر السمنة وعدم الانتباه لمظهره الجسمى. وهكذا يمثل الجسم المعتنى به ليس فقط رمزا للجمال الجسمى، لكن أيضا خلاصة النجاح الاجتماعى، والسعادة والكمال. أما الجمال وقد أصبح قيمة بحد ذاتها فإن بدوره يمنح صفات أخرى تماما غير بدنية مثل السحر والكفاية، والطاقة وضبط الذات”.
فى الحقيقة أن هذه العلاقة المربكة بين الشخص وجسده، تبدو علاقة ذاتية بمعنى أن كل شخص مسئول عن جسده، عن جماله ورونقه ونحافته، ولكن الأمر أكثر تعقيدا لأن الشخص قد يبدو مسئولا عن جسده أو جسدها، ولكن فى الواقع هو أو هى خاصع لسلطة خارجة عنه وعن إرادته، وهى سلطة الصورة. فالشخص يغترب عن جسده، فهو ليس تلك الكتلة التى يمتلكها، فقد يكون تلك الكتلة التى يريد أن يتخلص منها أو من بعضها، ودائما هناك جسد افتراضى مأمول، جسد نسعى لامتلاكه وصيانته والحفاظ ومراقبة أبعاده. إن هذه المناورات بين الشخص وجسده ذات كلفة عالية بالمعنى الاقتصادى والنفسى والأخلاقى. فمن أجل تحقيق الامتياز الشخصى بالقدرة على التحكم فى أجسادنا، فإننا نعيش حروبا يومية مع هذه الأجساد، وهى حروبا لا نخوضها بإرادتنا، فثمة ضغوط اجتماعية وإعلامية ومؤسساتية تدفعنا إلى اليقظة وتحذرنا من الهزائم، وتعدنا بالانتصار على عدو مخيف ليس شيئا آخرا سوى جسدنا.