تضمن العدد الأخير من مجلة الثقافة العالمية (يناير فبراير 2017) التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ملفا بعنوان “ما بعد الإنسانية” Transhumanism.
وقد تم ترجمة المصطلح بطرق متعددة، حيث يمكن أن تكون فوق الإنسانية أو عبر الإنسانية، ولكن فى كل الأحوال فإن المعنى المقصود هو تجاوز القيود البيولوجية والإدراكية التي تحد من بقاء البشر وقدراتهم، وهذا ما أفرزته التطورات العلمية والتقنية الكبرى في مجالات الذكاء الاصطناعي، المعلوماتية، تكنولوجيا النانو، والهندسة الوراثية.
فبفضل هذه التطورات تشكلت منذ عقود اتجاهات علمية وفكرية تعد باستخدام العلم والتكنولوجيا من أجل تعويض النقص البشرى على المستويين الجسدي والذهني بتدخلات تقنية وتعديلات جينية من أجل بناء ذوات بشرية تمتلك قدرة أكبر على البقاء وتجاوز الموت، وتتمتع بقدرات ذهنية تؤهلها لفهم أمور يستعصى على الكائن البشري غير المعدل فهمها.
وقد شهد العالم بالفعل تطبيقات لهذه العلوم في العديد من المجالات الطبية، والتكنولوجية والجينية، وهي تطبيقات تتواصل بوتيرة سريعة ومذهلة.
وهذا الانشغال الفكري والعلمي بتحولات الطبيعة البشرية ليس ظاهرة حديثة، فقد واكب التطور العلمي الحديث، توجهات وأفكار وتساؤلات حول قدرات البشر وإمكانية تجاوز ما يسمى بالحالة “الطبيعية”.
وفي أحد المقالات التي يتضمنها الملف (إلمو كيب: الخط الزمني لما بعد الإنسان)، يُذكر أن هاجس توظيف العلم من أجل خلود الإنسان يعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين، حيث أسس بيكولاي فيدروف Nikolai Fyodorov (الكوزمية الروسية) وهي نظام أعتقد روحي وتمهيد للانتقال إلى “مابعد الإنسانية” الداعمة لفكرة الخلود الجسدي واستكشاف الفضاء وإحياء الموتى من خلال العلم. أما مصطلح “ما بعد الإنسانية” فقد ظهر في منتصف القرن الماضي عام 1951، وقدمه أخصائي تحسين النسل وعالم الأحياء التطوري جوليان هكسلي Julian Huxley في محاضرة ألقاها بواشنطن بعنوان المعرفة والأخلاق والقدر وصف فيها فلسفته بأنها “فكرةالإنسانية التي تحاول تجاوز قيودها والوصول إلى نتيجة أفضل”. وعليه فقد اتسعت حركة ما بعد الإنسانية لتعكس اتجاهات فكرية وعلمية وتقنية وفنية وسياسية.
ومن منظور التعريف، فإن مصطلح “ما بعد الإنسانية”، وفق أحد مقالات الملف (راسل بلاكفورد: مستقبل عبر إنسانى)، يعبر عن حركة واسعة الانتشار، فيها الكثير من الأفكار والمزاعم، ولكن تحكمها أفكار أساسية، من أهمهما فكرة أن “البشر فى حالة انتقال”. وهنا يسأل الكاتب: “الانتقال من ماذا إلى ماذا؟”. والإجابة هي: “يتنبأ أنصار ما بعد الإنسانية بزمن ستفضي فيه التدخلات التقنية في قدرات الجسم والعقل البشريين إلى تعديلات بالغة في قدراتنا. وبالنسبة للمفكرين المعتنقين تماما لفكر ما بعد الإنسانية، ستكون هذه التغيرات جسيمة جدا لدرجة أنه من المنطقي حدسا أن ننظر إلى ناس المستقبل المتبدلين إلى حد كبير على اعتبار أنهم “ما بعد الإنسانية” Post Human (صفة) أو “بعد البشر” Post humas (اسم). ووفق النظرية سيكون الأشخاص بعد البشر امتدادا لنا، غير أنهم سيخالفوننا من عدة أوجه. وأهم تلك الاختلافات أنهم سيعيشون لفترات أطول بكثير من البشر العاديين، وسينعمون بسعادة أكبر وسيتمتعون بمهارات أعظم. وثمة تنوع مبالغ فيه على هذه الفكرة مفاده أننا ربما نرفع (بالمعنى الحاسوبي Upload) شخصياتنا على نظام حاسوبي متقدم ومعمر جدا، فنتواصل مع العالم بعدة طرق معقدة”.
وعن البعد السياسي لما بعد الإنسانية، يعطي الملف أهمية للحراك السياسي فى هذا المجال والذي يتفاعل في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوربية، وإن يأخذ صبغة كونية. ففي مقال رولاند بنديكتر وكاتجا سيبمان (ما بعد الإنسانية: تيار سياسي كوكبي جديد)، نقرأ ما يلي: “برزت العديد من الأحزاب ليس في الولايات المتحدة فقط، وإنما أيضا في دول غربية أخرى، مثل المملكة المتحدة وألمانيا، تكرس جهودها لزيادة الوعي بتغير العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا في عملية التأسيس.
وتحاول في سياساتها أن تنأى تلك الأحزاب عن الثنائيات السياسية بين اليمين واليسار. ومصطلح ما بعد الإنسانية ذاته يعبر عن فحوى القضية البرغماتية، المتمثلة في رغبة أحزاب تيار ما بعد الإنسانية في استبعاد أو بسط حدود إمكانات الإنسان البدنية، والمعرفية، وربما حتى “الروحية”.
ولا شك أن هناك جدل كبير ما بين مؤيد ومعارض لتيار ما بعد الإنسانية انطلاقا من منظورات سياسية وأيديولوجية وأخلاقية وهو ما يتتضمنه مقال آخر في الملف بعنوان “حجج الكرامة المؤيدة والمعارضة لعبر الإنسانية” لأندريه كريستى بوك.
وفي النهاية فما قدمته هو مجرد استعراض لبعض ما ورد في هذا الملف الذي يتناول قضية على درجة كبيرة من الأهمية مهما كان موقفنا منها.
وقد يكون هذا التوجه هذا الحلم بيوتوبيا ما بعد الإنسانية، يعود إلى فشل الحقبة “الإنسانية” في تحقيق اليوتوبيا المنشودة، من خلال الأيديولوجيات الكبرى التي وعدت البشر بالخلاص.
ولكن الاختلاف أن ما بعد الإنسانية لا تعد بالخلاص بقدر ما تعد بالبقاء، وهذه المزاعم