أوصيكم وصية جديدة: أحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم, أحبوا أنتم أيضا بعضكم بعضا (يو 14: 34)
هل نستطيع أن نعيش هذه المحبة كما علمنا إياها السيد المسيح؟ هل نستطيع أن نقترب من الآخرين لنصير لهم إخوة؟ في إحدي المرات صرحت الشابة لخطيبها: من المستحيل أن تكون شريرا, والسبب أنني أحبك. يوجد اختلاف كبير بين الحب الحقيقي المبني علي التضحية وبذل الذات وبين أي حب عابر ووقتي أو مبني علي المصلحة والانتهازية, لأن المحبة الحقيقية تستقي أساسها من الله ذاته وليس من الإنسان.
هذا الحب الإلهي نقي وخالص وبدون شوائب وأساسه العطية, قديما كان الناس ينتظرون العطية من الله, ولكن الله هو الذي أصبح عطية للجميع, وهنا يظهر لنا أن الله هو المركز الحقيقي لمحبتنا, لذلك ينتقل حبنا للآخرين المبني علي هبات أرضية وأشياء مادية نقدمها لهم إلي عطية ذاتنا لهم, وخلاف ذلك ستصبح محبتنا سطحية وهامشية. يجب أيضا أن نتحلي بروح المبادرة في الحب كما يفعل الوالدان تجاه أبنائهما متخذين الخطوة الأولي علي مثال الله المحب الحقيقي, وكما يقول لنا القديس يوحنا: تلك هي المحبة: نحن لم نحب الله, بل هو الذي أحبنا.. أما نحن فعلينا أن نحب لأن حب الله لنا سابق لحبنا (1 يو 4: 10, 19).
كيف نستطيع أن نبدأ في حبنا للآخر حتي يتغير للأفضل ويسير علي نهجنا؟ لا ننتظر من الآخر أن يأتي إلينا قارعا بابنا, لأن المحب الحقيقي لا يسعي إلي التماس أو طلب الغير له لكي يحبه, ولكنه يسبق طلب واحتياج وتوسل الآخر باحثا عنه, ولا ننكر أن من صفات المحبة المجانية أنها لا تنتظر أي مقابل من الآخر أو إدانته والحكم عليه, والشاغل الوحيد للمحبة هو أن تحب وتخدم, وهذا هو همها الأول والأخير.
للأسف, محبتنا غالبا ما تكون بها شوائب تجعلها باهتة وقاتمة وبعيدة كل البعد عن المحبة الإلهية. من أين تأتي كل هذه الأمور؟ الشعور بالتعالي تجاه الآخرين, أو التعصب لفئة بعينها, أو السعي وراء إدانة الآخرين أو استغلالهم لأي غرض, لذلك يجب أن نتعلم أن نحب من أجل المحبة وبدون مقابل, ليس من السهل تطبيق هذا, ولكننا بحاجة إلي تضحية عظيمة وتفان يوما بعد يوم. نستطيع أن نضيف صفة أخري للمحبة وهي أن يكون حبنا خلاقا في التعامل مع الآخرين دون التطرق إلي استحقاقهم أو عدمه, لأننا نكتشف في الواقع أن هناك كثيرا من المعوقات التي تقف أمام المحب ومنها كثرة التبريرات لعدم حبنا للآخرين وهي اتهامهم بالشر والعيوب والأخطاء, ونصل إلي النتيجة الحتمية وهي اضمحلال حبنا للقريب أو البعيد حسب ما تطلب منا الوصية الإلهية الجديدة, ثم نقف في مكاننا فاقدين الشجاعة التي تدفعنا إلي حب الآخر واحتماله, أو نقع في المسكنة التي تبعدنا عن معظم الناس قائلين: هؤلاء أناس أشرار وسيئين, من المستحيل احتمالهم أو اللقاء معهم.
ويقول الجاحظ في هذا الصدد: إذا كان الحب يعمي عن المساوئ, فالبغض يعمي عن الحقائق والمحاسن. وأمام هذه النظرة الخاطئة للآخرين, نصل إلي الحد الذي نغلق فيه قلبنا ونتراجع عن حبنا ونبحث عن أشخاص يستحقون حبنا, وندخر هذا الحب لذاتنا, مبررين ذلك بأنه يعود إلي أخطاء الآخرين قائلين: بأنهم هم الذين يعيقوننا في أن نعيش الحب المفروض علينا, ونتهم الله بأنه يندم لحبه لنا أو يقلله بسبب أخطائنا وعيوبنا, الله محبة, ولن تهتز هذه المحبة مهما كانت ردود فعل الشر.
لا يستطيع أحد أن يدعي بأن الله يحب الأخيار فقط, لأنه كما يقول الكتاب المقدس: يشرق شمسه علي الأشرار والأخيار, وينزل المطر علي الصالحين والطالحين (مت 5). كم من أشخاص تغيرت حياتهم للأفضل عندما شعروا بمحبة الله لهم؟
وكم من أناس اتخذوا طريق الصلاح والبر لأنهم وثقوا في مغفرة الله اللا محدودة لهم؟ إذا زعمنا بوجود أشخاص سيئين من حولنا, أو أشرار يتعاملون معنا, سنكتشف السبب بأنهم لم يجدوا من يحبهم أو يحتضنهم. أيضا لم يحصلوا علي حصتهم من حب الآخرين, هم صغار بسبب نقص محبة الغير لهم الذي أعاق نموهم, لأن الحب الحقيقي هو الذي يساعد علي النمو ولا يتوقف عند العيوب والأخطاء التي تصدر من الآخرين, وكما يقول الشاعر العالمي دانتي: الحب قادر علي تحريك الشمس وسائر الكواكب. فالحب خلاق, وإذا وجدنا شرا في العالم, نستطيع أن نحجمه بحبنا وقبولنا للآخرين.
نحن لا نحب الآخرين لأنهم طيبون, ولكنهم سيصيرون طيبين لأننا نحبهم, ويقول الكاتب برنانوس: علمتني الخبرة فيما بعد, أننا لا نستطيع أن نصف الآخرين حسب عيوبهم ولكن بما في داخلهم من خير ولم يظهر علي السطح بعد, ولكنه معهم منذ الطفولة وفي انتظار من يكتشفه ويخرجه إلي النور.
فالحب الحقيقي يذهب إلي ما وراء الأخطاء والعيوب ويدخل إلي العمق ويبحث ويكتشف ويوقظ ويلتمس ما لم يتلوث أو مازال طاهرا نقيا حتي في الأشخاص الغارقين في الشر, ويظهر جماله للآخرين. من يحب لا يخجل في أن يعتبر نفسه بحاجة إلي الآخرين, كما يفعل الله القادر علي كل شيء ويجعلنا نقوم بالإنجازات والواجبات المطلوبة منا ونعمل بأيدينا لنثمر وننتج, كما لو أنه يقول لكل واحد منا: أني أحبك, إذا أنا بحاجة إليك. وطلب الله منا لا يعني أنه لا يستطيع القيام به, ولكن الهدف منه أن يخرج كل ما هو جميل ورائع بداخلنا. فقط من يحب هو الذي يستطيع أن يطلب من هؤلاء الذين يقدم لهم حبه.
المحبة ليست مزاحا وتضييع وقت, ولكنها مسئولية كبيرة تصل إلي التضحية بالنفس وبذل الذات من أجل الآخرين. لا نستطيع أن نقبل حبا محددا بالوقت والإمكانيات البسيطة دون مجهود أو آلام, ونختم بكلمات جبران خليل جبران: قد لا تستطيع قيود العالم أن تقرب ما بين شخصين, ويستطيع خيط رفيع من الحب أن يجمعهما إلي الأبد.
رئيس المركز الكاثوليكي للسينما