خلق الله الانسان فى أحسن صورة، ثم اهداه هدية ثمينة تفوق بها على كل المخلوقات وهى العقل، والعقل يفكر دائما ويبحث عن الافضل والارقى، والعقل يحتاج منا الى الحرية التى تدفعه دائما الى التفوق والى اكتشاف نظريات ونظما وطرقا جديدة وقوانين تيسر الحياة.
من هنا كانت حرية الانسان دائما هى الهدف الرئيسى فى حياته وبخاصة حرية الفكر التى تتيح لعقله الانطلاق والابداع والتقدم، والعقل فى تطور دائم ضد الجمود والتمسك بالتقاليد القديمةوالافكار العتيقة البالية، هذا التطور هو الذى حقق للإنسان حضارة القرن الحادىوالعشرين الذى نعيش فيه بكل أنواع التكنولوجيا وحقوق الانسان والبحث عن الخير والحق والجمال لم تكن مسيرة الانسان منذ وجوده فى هذا العالم سهلة ميسرة بل كانت صراعا مريرا بين الجمود والتطور، بين الجديد والقديم، بين الحرية والاضطهاد وتعذيب كل حر ينادى بالجديد المفيد.
عن حرية الفكر وأبطالها فى التاريخ قدم لنا كاتبنا الكبير سلامة موسى كتابا صغيرا قيما يحكى فيه عن ابطال وزعماء الحرية، الذين تحملوا الكثير بل قدموا حياتهم فداء افكارهم التقدمية من اجل الانسان فى كل مكان.
يقول الكاتب: حرية الفكر هى حرية البوح لكل صاحب فكرة او نظرية جديدة، او هى حرية نقد القديم، لكن التاريخ يثبت لنا أن معظم الذين باحوا بما فى صدورهم بحقيقة علمية او فلسفية او دينية جديدة نالوا من الاضطهاد بالتعذيب او الحبس او القتل الشئ الكثير الذى لم يخل منه قرن منذ اكثر من الفى سنة، اما اسباب هذا الاضطهاد والتعذيب فيرجع اولا الى الكسل فاذا ابتدع احد بدعة جديدة فى اللباس او الطعام او العناء او الشعائر الدينية او حتى الأسلوب الكتابى فانه يصدمنا لأول وهلة ويكلفنا تفكيرا او جهدا كنا فى غنى عنه.
اما السبب الثانى لاضطهاد الجديد فهو ان المصلحة المالية والمعاشية كثيرا ما تكون متعلقة بالعادات المعروفة، فتبديلها يضيع على بعض الطبقات هذه المصلحة، وابسط مثل على ذلك هو ان الغنى يكره الاشتراكية لمصلحة واضحةوالسبب الثالث هو الجهل، فالجاهل يتعصب الى القديم الذى يعرفه ويرفض الجديد الذى لا يستوعبه. والسبب الرابع هو الخوف، فان العجوز مثلا قد تؤمن بالأولياء والقديسين وتتشفع بهم، ولا يمكن أن تناقشها فى هذه الكرامات لانها تخاف من أن تطلق لعقلها الحرية فى مناقشة ذلك، فهذا حرام بالنسبة لها. هذه الأسباب قد تكون مجموعة كلها اوبعضها فى طائفة من الناس.
ومع ذلك فالجديد يفوز فى النهاية وان كان المؤمنون بها قليلين.
يقسم سلامه موسى كتابة الى ثلاثة اقسام:
الجزء الاول: حرية الفكر فى العصور القديمة.
الجزء الثانى: حرية الفكر فى العصور الحديثة.
الجزء الثالث: فى تبرير الحرية الفكرية.
نبدأ بالجزء الاول وهو حرية الفكر فى العصور القديمة:
عرف الانسان الاول، وهناك بعض الشعوب والقبائل تؤمن بذلك حتى الآن: الطابوTabu اى المحرمات مثل: الخنزير يجب الا يمس او يؤكل، وبعض الحيوانات او الطيور يحرم قتلها او صيدها، زوجة الرجل او زوجاتهحلال له وطابو اى حرام على غيره، ومازلنا نسمى النساء(حريما) اى يحرم على غير ازواجهن ان ينظروا اليهن.
فالطابو هو اصل الاداب الاخلاقية، وهو ايضا اول قيود الحرية الفكرية، فلما ارتقت الامم بعض الارتقاء وصارت طبقات نشأت فيها طبقة الكهنة والسحرة الذين يعرفون الناس بانواع الطابو اى المحرمات فزادت انواع المحرمات جمودا وتعددا لأنه اضيف الى قوتها قوة مصالح الكهنة.
ولازال فى العقائد الدينية الفاشية الان انواع جديدة من المحرمات. فالبقرة فى الهند لا تؤكل عند الهندوس،والخنزير كذلك عند اليهود. وعند ظهور الآلهة وانتظام العبادة ازداد الكهنة قوة وزادت معها المحرمات فتقيد فكر الإنسان، ولما ارتقى الانسان خطوة الى الامام خفت سلطة المحرمات واستأثر الالهة بالسلطة واندمج ما تبقى من المحرمات فى الديانات الإلهية فاتسعت بذلك الحرية الفكرية بعض الاتساع.
والنظرالدينى كان فى الاصل نظرا علميا قابلا الجدل والتمحيص لكنه صار بعد ذلك نظرا دينيا قائما على الجزم لقلة وسائل التحقيق عند الإنسان الاول ولان طبقة من الناس رات مصلحتها فى ترويج العقائد الدينية وتعيش منها، لذلك كانت المعابد قديما اماكن لدراسة العلم وكان الكاهن عالما، والملاحظة المهمة هنا ان الدين فى نفسه لايمكنه ان يضطهد العلم، وانما الاضطهاد يرجع الى الكهنة انفسهم، ولما كان الكهنة لا يمكنهم ان يضهدوا احدا ما لم تكن السلطة فى ايديهم، فالذى يقيد الفكر والذى اضطهد الناس هى السلطة الحكومية، ومادام الدين بعيدا عن الحكومة فانه لاهو ولا كهنته يمكنهم أن يضطهدوا احدا. اما اذا صارت الدولة والدين جسما واحدا امكن رجال الدين ان يضطهدوا من يشاؤون وان يقيدوا الفكر. فالاضطهاد الذى كابده الناس فى الماضى من رجال الدينانما سببه الرئيسى ان هؤلاء الرجال كانوا قايضين على ازمة السلطة فى الدولة.
عرف المصريون القدماء وغيرهم علوماً كثيرة مثل الرياضة والفلك لكنهم لم يضعوها فى مكان الاعتراض على الدين ولذلك لم يضطهد رجال الدين احدا، وكانت الحرية الفكرية متوفرة مادامت متفقة مع الدين واردة الآلهة، وعند الاغريق اختلف الوضع فهم اول امة نزعت نزعة علمية ووضعوا النظريات التى تصطدم مع الدين ففى سنة 428ق. م.
مات(أناكاجوراس) العالم اليونانى الذى اعلن ان الشمس ليست مركبة يركبها الالهة، كما تقول الديانة، بل هى قطعة من ناروان القمر يحتوى على جبال، ولم يعجب كلامه وعلمه رجال الدين وحبسوه فى أثينا ثم نفوه منها فمات فى أسيا، وهو اول ما نعرفه ممن اضطهدهم الدين لانه اطلق الفكرة العنان والحرية واكتشف شيئا وحقائق جديدة، كذلك يعتبر(بروتاجوراس) اول انسان يعلن كفره بالالهة فى اثينا فقدم للمحاكمة لكنه هرب فى سفينة الى صقلية وغرقت فمات سنة 415 ق.م، وناتى للقرن الرابع ق.م. لنلتقى بأبى الفلسفة سقراط، الفيلسوف الجرئ الحر الذى اعلن ان الالهة لا تقرر مصير الانسان وانما مصيره بيده، واعلن ايضا انه لا يوجد الا اله واحد غير منظور، ومن اقواله ايضا:
(ليس على الارض انسان له الحق فى ان يملى على الاخر ما يجب ان يؤمن به او يحرمه من حق التفكير).
لم تعجب اراء سقراط حكام اثينا واتهموه بافساد الشباب وحكموا عليه بالاعدام عن طريق احتساء كاس السم، ورحل سنة 399 اول شهيد للفلسفة وضحية عدم حرية التفكير.
جاءت المسيحية بفكر متسامح، والسيد المسيح لم يقصد الى وضع نظام كنسى جديد له كهنة وحكومة بل ان المسيحى الصادق هو الذى يدخل غرفته ويصلى لربه بعيدا عن اعين الناس، لكن المسيحية اخذت من النظم اليهودية فصار لها كهنة وكان هؤلاء الكهنة هم المضطهدون للعلم والفلسفة مدة الف عام تقريبا. بدأت المسيحية ديانة بسيطة تبحث عن حياة الانسان الروحية وتهتم بكل القيم الانسانية من حب وعطاء وعمل الخير، ووجد المسيحى نفسه بكره العنف والقتل ومن هنا رفض الانخراط فى سلك الجندية مما جعل رجال الدولة يشعرون بان قوة دولتهم ستنهار اذا امتنع الشباب عن الاشتراك فى الجيش، فبدءوا يهاجمون هذا الدين الجديد، بل ويعذبون أتباعه، فامر الامبرطور نيرون بتعذيب المسيحيين وقنلهم وهدم بيوتهم وجاء دقلديانوس ليزيد من تعذيب المسيحيين ويقدمهم طعاما للوحوش، وجاء بعد ذلك حكاما يؤمنون بحرية الراى والدين مثل، سيماخوس، الذى مات سنة 405، فقد اراد ان يعيش الجميع مع اختلاف دينهم فى سلام.
الغريب ان المسيحيين بدءوا يضطهدون غيرهم ثم للاسف انقسموا على نفسهم، الكنيسة الارثوذكسية فى الشرق انقسمت الى طائفتين تقتلان فى الأسكندرية وفى كل بلدة كبيرة، وكان الكاثوليك فى الغرب يقاتلون الارثوذكس فى الشرق، ثم دارت معارك اخرى بين الكاثوليك والبروتستانت، فى سنة 1517 اعلن مارتن لوثر انفصاله عن الكاثوليكية، فابتدعت الكاثوليكية محاكم النفتيش التى استمرت 500 سنة يحكم على الخارجين عنها وتعذيبهم بالسيف والحرق والخنق بالحبال، ففى سنة 1572 ذبح الكاثوليك 25000 بروتستانتى فى فرنسا.
يحدثنا سلامة موسى فى كتابه عن التسامح فى الاسلام فيستشهد بقول الشيخ محمد عبده: ان المسلمين الاولين فى زمن الخلفاء لم يقتصروا فى معاملة اهل العلم من النصارى والنطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام. بل فوضوا اليهم كثيرا من الاعمال ورقوهم فى المناصب فى الدولة حتى ان هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسوية.. ولم يكن ينظر الى البلد الذى عاش فيه العالم ولا الى الدين الذى ولد فيه.. وممن اشتهر عند الخلفاء المهدى يتوفيل ابن توما النصرانى المنجم من لينان، وعند الرشيد يوحنا بن ماسوية المصرانى السريانى، وعند المامون يوحنا البطريق الذى كان امينا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة.
وفى ايام المتوكل اشتهر حنين بن اسحق النصرانى اشهر المترجمين لكتب ارسطو، وغير هؤلاء كثيرين.
يؤكد الكاتب ان معظم حوادث الاضطهاد الدينى نجد فيها رجل الدين يتعلل بالدين وغايته فى حقيقة السياسة، ولولا المصلحة السياسية لبقى الدين معتكفا فى جامع او صومعة.
ومن هنا فالنظر الدينى لليهود والنصارى- اى المسيحيين- يختلف باختلاف النظر السياسى. ويضرب المؤلف مثلا ببعض خلفاء الإسلام وماحدث أيامهم من اضطهاد لليهود والنصارى على ايامهم ويخص بالذكر الحاكم بامر الله الفاطمى الذى قتل بالقاهرة سنة 1021، ويصفه التاريخ بالهوس والسخافة فقد اضطهد الاقباط فى مصر اضطهادا لم يلقوه من قبل وكذلك فعل مع اليهود، والغريب انه عامل المسلمينمعاملة عجيبة ايضا فقد منعهم من اكل الملوخية والجرجير ومنع النساء من التبرج ولبس الكعب العال.
يحدثنا سلامة موسى فى كتابه: حرية الفكر وابطالها فى التاريخ عن الامام الغزالى الذى رحل عن الدنيا سنة 505 هجرية فيقول انه كان رجلا مثقفا ذكيا درس المنطق والفلسفة وفهم التوراه والانجيل ومع ذلك كفر الفلفسة حتى هدمها فى كتابه: تهافت الفلاسفة.. وكان متعصبا للغاية يحكم على كل من يخالفه الراى الدينى بالزندقة. وقد رد عليه فيلسوف الاسلامابن رشد بكتاب تحت عنوان تهافت التهاقت، يدافع فيه عن الفلسفة واهميتها فى بناء الفكر الانسانى. من ابطال حرية الفكر الاسلامى الصوفى محى الدين بم عربى، الحلاج، ابن حزم، ابن رشد، الهروردى والشيخ محمد عبده وغيرهم.
الجزء الثانى: حرية الفكر فى العصور الحديثة:
اتفق المؤرخون على ان سنة 1453 التى تغطت فيها القسطنطينية هى ختام العصور الوسطى وبداية عصر النهضة الذى اعتمد على العلوم التجريبية والادب والفلسفة ودراسة الديندراسة عقلية نقدية، وساهمت المطبعة فى نشر الكتب والوعى ايضا.
وقد تحدثنا فى الفصل السابق عن دور مارتن لوثر كبطل من ابطال حرية الفكر ووقوفه ضد فساد الكنيسة الكاثوليكية تم الحروب بينهما، من ابطال حرية الفكلا فى عصر النهضة ايضا: ارازموس الهولندى، رابليه الفرنسى، سوزينى الايطالى، والشهيد برونو الايطالى الذى احرقته محاكم التفتيش سنة 1600 وتقدم الى النار فى شجاعة فائقة، اما العالم الجليل جالليو فهرب من الحكم عليه وانكر اكتشافه حتى لا يصبح مثل برونو. فى القرن السابع عشر ساهم كل من بيكون، ديكارت، سبينوزا، هويز، لوك فى تحرير الفكر من التقاليد البالية والسلطة الغاشمة الدينية ولعب فولتير دورا كبيرا فى نشر فلسفة التسامح وحرية الفكر فى القرن الثامن عشر ثم قامت الثورة الفرنسية 1789 واعلنت حقوق الناس وحريته الكاملة، ومع ذلك فقد اطاحت الثورة بالف واربعمائة راس انسان عن طريق المقصلة.. أما الفصل الثالث والاخير فيتحدث فى ايجاز شديد عن النهضة الفكرية الحاضرة فى مصر التى ترجع الى عهد اسماعيل وليس لها علاقة بنهضة محمد على، ففى عهد اسماعيل ظهرت الصحف وكان زعماء حرية الفكر الشيخ محمد عبده وجمال الدين الافغانى وقاسم امين والشيخ على عبد الرازق والدكتور طه حسين وشبلى شميل وفرح انطون.
ومازال الانسان فى كل مكان وزمان يبحث عن حرية الفكر والعقل حتى تستطيع الانسانية بلوغ هدفها فى حياة حرة كريمة، تحترم كل انسان مهما بلغت بساطته وتواضعه، ومهما اختلفنا معه فى الجنس او اللغة او الدين او اللون او الشكل.