لا شك أن باعة الصحف من المصادر الرئيسة لتشكيل الوعى الثقافى، خاصة فى مجتمعات يقل فيها الاهتمام بالمكتبات العامة أو تنعدم فيها سبل الوصول للمعرفة. وحتى مع إنتشار الصحافة الإلكترونية، والاستغناء المتزايد عن الصحف والمطبوعات الورقية، لا يزال باعة الصحف يحتلون حيزا فى الحضر والريف، فى الميادين الكبرى ومحطات القطارات والمواصلات العامة، وفى الشوارع الجانبية وعند إشارات المرور، ومنهم من يتجول حاملا مناديا على أسماء الصحف الأساسية. وبالمقابل فمن بين الناس من يواظبون على زيارة باعة الصحف يوميا، بل إن البعض يجد في ذلك عادة يومية، والبعض الآخر مما يهتمون بالدوريات والمجلات يمارسون عند باعة الصحف متعة إكتشاف الجديد من بين المعروض على الأرض أو على الأرفف إن وجدت.
وإذا كانت الصحف هى المقصد الرئيس للمترددين على باعة الصحف، إلا أن الكتب والدوريات والمجلات لها أهميتها الخاصة. وهنا تحديدا تختلف نوعية باعة الصحف، وبالتالى تختلف درجة صلتهم بعالم الثقافة والمعرفة. فثمة باعة لا يقدومون إلا الصحف والجرائد الأساسية، وهناك من يضيف إليها بعض المجلات والمطبوعات وخاصة الدينية، ولكن يوجد باعة صحف تكون “فرشتهم” غنية وثرية بالصحف المحلية والعربية والأجنبية، والدوريات والمجلات وأحيانا الكتب والروايات وهؤلاء غالبا ما يوجودن فى المناطق والميادين الحضرية، وربما تكون أماكنهم معروفة، وتكون بمثابة من علاماتوملامح المكان. والكثير منا يعرف مثل هؤلاء فى ميدان التحرير بالقاهرة أو محطة الرمل بالإسكندرية أو حى الزمالك، وحتى فى زيارتنا لبعض الدول العربية يمكن أن ننجذب إلى هذا النوع من باعة الصحف على أرصفة شوارع مثل شارع محمد الخامس بالرباط بالمغرب، أو مكتبات بعينها فى شارع الحمرا ببيروت. وهذه مجرد أمثلة، لأن كثيرا من أماكن بيع الصحف الغنية والثرية توجد كذلك فى المدن خارج العواصم.
ومن المؤكد أنه لا توجد درسات حول تأثير باعة الصحف فى الوعى والتوجهات الثقافية، أو على الأقل ليس لدى علم بمثل هذه الدراسات إن وجدت. ولكن، على سبيل الانطباعات العامة، لاشك أن المهتمين بالثقافة فى المدن أكثر حظا من المهتمين بالثقافة فى المناطق الريفية، فثمة فجوة كبرى بين من يمكنه الوصول إلى مصادر متنوعة للمعرفة وبين من يظل أسير اختيارات محدودة. ومع ذلك، فهذا لا يعنى أن تأثير باعة الصحف على الثقافة فى المناطق الحضرية أكثر منه فى الريف، فلربما يكون التأثير فى الريف أكبر فى بعض الحالات رغم قلة المعروض من الصحف والمجلات والدوريات. إن الوقت المتاح للمهتمين بالقراءة والثقافة فى الريف عادة ما يكون أكبر من ذلك المتاح لنفس الفئة من أهل المدن. ولكن المشكلة الأساسية سببها محدودية الاختيارات فى الريف والتى تحد من فرص الاختيار والاطلاع على التنوع فى عالم الإصدارات الثقافية، فيصبح القارئ أسير المتاح بما يتضمنه ويقدمه من محتوى فكرى، والذى غالبا ما يكون خليطا غير متجانس من الثقافة الدينية والعلمانية العامة كأن تتجاور مجلات مثل مجلة “الأزهر” ومجلة “العربى”، فلا يكون أمام القارئ قليل الحيلة إلا إستقاء فكرة من هنا وفكرة من هناك حتى لو كانت أفكارا غير متوافقة أو حتى متضاربة.
ولا نعلم كذلك، أو بالأحرى لا أعلم، إذا ما كانت التطورات التكنولوجية الحالية قد أثرت فى مجال القدرة على الوصول للمعرفة فى الحضر والريف أو بينهما، لأن هذا أمر تحدده عوامل كثيرة مثل درجة اهتمام الأجيال الجديدة بأهمية المعرفة، ونوعية المعرفة التى يبتغونها، إلى غير ذلك من عوامل ومؤثرات. وفى ظل الأوضاع الاقتصادية الجديدة ثمة مؤثر عام جديد والمتمثل فى غلاء أسعار الإصدارات التىطالما كانت مصدرا للثقافة الجادة بأجر زهيد، مثل إصدارات المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، فإلى أى مدى سيؤثر هذا على الإقبال على باعة الصحف؟ وفى كل الأحوال سيظل باعة الصحف لفترة أخرى من الزمن يفترشون الأرصفة فى الميادين والشوارع ومحطات القطارات ووسائل الموصلات العامة، ويتجولون فى الأحياء وعند إشارات المرور، حتى لو تغير محتوى ما يقدمونه، وتغيرت نوعية واهتمامات من يقصدونهم طلبا لتلك السلعة المسماة ثقافة ومعرفة.