خطوط السكك الحديدية فى مصر تمتد بطول البلاد وعرضها من أسوان إلى الإسكندرية ومن بورسعيد إلى مرسى مطروح لتنقل مئات الآلاف من البشر يوميا، منهم من يقطع نفس المسافات يوميا، ومنهم من يذهب ومنهم من يعود. ورغم تنوع وسائل السفر وزيادة أعداد من يملكون سيارات وانتشار وسائل النقل بالأجرة، إلا أن القطارات لا تزال وسيلة الانتقال الأساسية لأنها الأقل كلفة والأكثر قدرة على قطع مساقات طويلة. وإذا كانت شبكة السكك الحديدية تربط العديد من المدن والقرى فى الوادى والدلتا، إلا أن قطارات الصعيد كانت وربما مازالت ذات طابع خاص، فالمسافات القصيرة لا تحمل معنى السفر بقدر ما تحمله مسافات الصعيد. ففى المسافة بين أسوان والقاهرة كان القطار دائماسيد الموقف، يقطع المسافات الطويلة وكأنه يلتهم المدن والقرى، ويطوى الليل والنهار، ويسابق الزمن، فيرى المسافر أثر تغيرات الطقس بين الشمال والجنوب على الثمار والبشرة. إنها رحلته التى يغازل فيها نهر النيل فيقترب منه ويبتعد عنه، يسير بجوار فروعه وحقوله ويكشف عن اتساعه وضيقه.
وإذا عدنا بالزمن إلى الوراء، فإن قطار الصعيد الذى يتحرك بصرامة وبدون كلل كان الوحيد الذى يحمل معه مشاعر الرحيل والغربة والعودة، فنجد من يودع ونجد من ينتظر. وكان الوداع والانتظار على محطات القطار ظاهرة وطقس اجتماعى، حتى أن أعداد المودعين والمنظرين على محطات القطار كانت تفوق أعداد المسافرين بأضعاف. وكان لقطار الصعيد حظه من الأعمال الفنية سواء على مستوى الأفلام أو الأغانى، ففى الكثير من الأفلام المصرية كان القطار موقعا للتصوير، وكان مرور القطار علامة على الغربة والحلم بالعودة أو الرحيل. وحتى فى الأغانى، كان له نصيب أكثر من غيره من القطارات، فهو الذى قيل فيه “يا وابور الساعة اتناشر يا مقبل ع الصعيد”.
وبالنسبة للأجيال الأكبر سنا ممن عاشوا تجربة السفر لمسافات طويلة فإنهم يتذكرون كيف أن السفر كان بمثابة تجربة إنسانية يتعايش معها المسافرون فيتبادلون الأحاديث والهموم والأحلام والطعام. وبطول البلاد وعرضها فإن هوية القطارات تتحدد بزمن الوصول، أما قطارات الصعيد، إلى جانب قطارات القاهرة الإسكندرية، لها أسماء تعرفها وتصنفها فهناك القطار “المجرى” والقطار “المفتخر” وفى كل محطة لها موعدها الذى تأتى فيه أو تتأخر عنه قليلا أو كثيرا، وحتى فى البلاد التى لا يتوقف القطار فى محطاتها ويعبرها بشموخ وكبرياء، كان صوت القطار يذكر بالأوقات ويعلن عن اسمه.. أما الآن فقد تغيرت الأحوال بعدما أصبح البشر يسافرون أكثر مما يستقرون، وانفصمت العلاقة بين المسافات والغربة، وزاد الزحام ومعه زادت العزلة والهروب من الوجوه والملامح فى شاشات أجهزة المحمول. حتى ضجيج القطار بات بلا هيبة أو كبرياء، فقد توارى فى ضجيج الحياة، ولم تعد صافرة القطار تحظى بإمتياز كان لها فى السابق.
أستطيع أن أقول كشخص عاش تجربة السفر بين القاهرة إلى أسوان، أن قطار الصعيد كان يشكل ما هو أكثر بكثير من وسيلة مواصلات، فقد كان السفر متعة واكتشاف للمدن والقرى، وتفاصيل البلاد، وشروق الشمس وغروبها، وحتى اختلاف الأزياء واللهجات. ورغم كل التحولات التى يشهدها المجتمع بسبب الزخام وتعدد وسائل الموصلات، والتنافس من أجل الحصول على تذكرة أو مقعد، إلا أن قطار الصعيد سيظل يقطع المسافات ولا يعبأ بالتحولات.