أتخيل أن جهة بحثية ما قررت إجراء دراسة مقارنة حول الواقع الاجتماعى والثقافى فى مصر الستينيات والآن. وأفترض أن هذه الدراسة إرتكزت على سؤال محورى حول التغير فى الثقافى والاجتماعى الذى شهدته على مدار العقود الماضية لنقل منذ الستينيات وحتى الآن كأن نقول: هل أصبح المجتمع المصرى أكثر تدينيا أم اكثر انحطاطا؟ وفى هذا المقال افترض أن ثمة إجابات متوقعة انطلاقا من مجموعة من المؤشرات المتفق عليها.
فمن ناحية أولى، أتوقع أن يكون الرد على السؤال بشأن درجة تدين المجتمع بالإيجاب، أى نعم لقد أصبح المجتمع المصرى أكثر تدينا. وترتكز هذه الإجابة على عدد من المؤشرات الظاهرية بالطبع ومنها انتشار الحجاب، انتشار الأسماء الدينية، زيادة التعبيرات الدينية فى حياتنا اليومية، كما أن الكتب الدينية هى الأكثر مبيعا، والزيادة غير المسبوقة فى عدد الدعاة الدينيين، وإخضاع كل شئ لمنطق الحلال والحرام، الخ. فرغم أن الشعب المصرى كان متدينا فى الستينيات، إلا أن المظاهر الدينية الآن أكثر حضورا وتأثيرا على حياتنا اليومية. ومن ناحية أخرى، وبالسؤال عن مدى انحطاط المجتمع، أعتقد أن الرد ايضا سيكون بالإيجاب، بمعنى أن المجتمع اصبح أكثر انحطاطا مقارنة بالستينيات. وقد ترتكز هذه الإجابة على عدد من المؤشرات الجلية مثل زيادة نسبة الفساد، وارتفاع وتنوع مستوى العنف الاجتماعى والجريمة، والزيادة الدرامية فى الممارسات الحاطة بالكرامة مثل التحرش بالنساء والأطفال إلى غير ذلك من ممارسات نعيشها ونراها ونعانى منها وبالتالى لا يمكن انكارها.
إذا افترضنا أن نتائج مثل هذه الدراسة وفق المؤشرات الموضوعة صحيحة لحد ما، فسوف نجد أنفسنا اما وضعية يتزامن فيها شكل معين من اشكال التدين مع انحطاط ظاهر على المستوى الاجتماعى والثقافى. ولعل السؤال المنطقى فى هذه الحالة سوف ينصب على العلاقة، أى: ما هى العلاقة بين هذا النمط من التدين وانحطاط المجتمع اجتماعيا وثقافيا؟ أتصور أن مجرد طرح مثل هذا السؤال قد لا يكون أمرا مقبولا، وأتخيل أن البعض قد يخلط بين التدين الذى هو ممارسة بشرية اجتماعية وبين الدين، وبالتالى فإن طرح السؤال هو من المحظورات. ومع ذلك فقد يكون من الممكن التمييز بين التدين بوصفه ممارسة والدين بوصفه نص مجرد ومتعالى، وفى هذه الحالة قد يكون الرد على السؤال أكثر تعقيدا. ومن ناحية ثمة ردود علمية تعالج التدين بوصفه ظاهرة اجتماعية وثقافية وتربط بينه وبين الفقر والتخلف الاجتماعى والاقتصادى، وتدهور مؤسسات التعليم أو غير ذلك من العوامل السوسيولوجية والسياسية. وعليه يكون التدين مجرد فعل بشرى يتمثل فى ممارسة معينة للدين تخضع لشروط الواقع.
بهذا المعنى فإن المجتمعات المتخلفة غالبا ما ترى الدين وتوظفه وتؤوله وفق رؤيتها المتخلفة، والعكس صحيح، أى كلما زاد المجتمع تحضرا كلما ارتقى بممارساته الدينية. ولا ينطبق هذا على الدين فقط وانما على الثقافة والفكر بشكل عام، فكلما كان المجتمع متخلفا كلما أنتج ثقافة تعيد انتاج تخلفه، بل أحيانا ما تصنع من هذا التخلف أمجادا وهمية. ولكن من ناحية أخرى ثمة ردود سائدة أى تلك التى تتعامل مع المسألة بطريقة مراوغة من خلال الخلط بين الدين والتدين وتدافع عن التدين المظهرى السائد وكأنه هو الدين ذاته، أو من خلال تجاهل الواقع المعاش وإعتبار أن ما يحدث ليس تدينا. الخلاصة أننا يمكن أن نتخيل ردودا متعددة تعكس خلفيات أيديولوجية ومصالح سياسية معينة.
وبما أننا ما زلنا فى مجال التصورات والتخيلات، فلا مانع من إنهاء هذا المقال بتخيل عن نشأة حركة اجتماعية فى المجتمع لمواجهة الانحطاط الثقافى والاجتماعى السائد. حركة لا تخشى الابتزاز الثقافى وحملات التكفير التى تعكس واقعنا المتخلف. اتصور أن مثل هذه الحركة، حال نجاحها، لن تؤدى فقط إلى تعزيز الفكر العلمى والنقدى واحترام حرية الرأى والتعبير، بل إن نجاحها سيؤدى بالتبعية إلى إصلاح المنظومة القيمية السائدة وهو الأمر الذى سينعكس ايجابا على طبيعة التدين والذى سيبتعد عن كونه مجرد شكليات أو مظاهر دينية ويتوافق مع كل ما يعزز الكرامة الإنسانية. وبهذا المعنى يكون التدين متغير تابع لمستوى تطور المجتمع. وهكذا فإن ما يجب أن نحلم به الآن ليس إصلاح الخطاب الدينى ولكن إصلاح الشروط الاجتماعية المنتجة للخطاب والممارسات الدينية. فهل يمكن أن يتحقق هذا؟