تحتدم النقاشات الآن بشأن لجوء الدولة إلى الوسائل العرفية لحل مشكلات وجرائم من المفروض أن يكون القانون هو وسيلة التعامل معها وحلها من أجل معاقبة الجناة وإنصاف الضحايا، فضلا عن منع او التقليل من حدوثها فى المستقبل. وتتعالى الأصوات التى تؤكد، بحق، بأن الحلول العرفية لم يثبت نجاعتها بعد اللجوء إليها لسنوات طويلة مع القانون أو كبديل عنه، والتوهم بأنها وسيلة فعالة لحل المشكلات. والهدف من هذا المقال هو إلقاء الضوء على مشكلة القانون والعرف فى مجتمعنا الراهن، فثمة تصورات سائدة تضع القانون مقابل العرف فى معادلة تبدو بسيطة، رغم إن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك فى مجتمع لم يكتمل كمجتمع مدنى حديث يخضع لحكم القانون بالكامل، ولم يعد مجتمع تقليدى تحكمه الأعراف، فبين القانون والعرف مساحات واسعة من الإضطراب والفوضى والعشوائية.
وفى هذا السياق يمكننا أن نحدد خمسة مستويات لعلاقة القانون والعرف بالمجتمع. المستوى الأول هو المستوى القانونى والذى من المفترض أن ينظم علاقة المواطنين بالدولة وعلاقتهم ببعضهم البعض. وبالفعل فإن القانون فعال فى العديد من المجالات، ولكن مشكلته أنه ليس فعالا فى كل المجالات وبنفس القدر. ولذا فإن المستوى القانونى يحيط به مستوى آخر، يخبو فيه حكم القانون ويتعثر لأسباب سياسية واجتماعية، فنجد الكثير من المشكلات المرتبطة إما بعدم عدالة القانون ذاته، أو عدم احترامه من قبل المسئولين عن إنفاذ القانون، أو بسبب المعايير المزدوجة فى تطبيقه، فضلا عن بطء إجراءات التقاضى. وعلى الطرف المقابل يوجد العرف، وهو بالفعل يعد أحد أشكال التنظيم الاجتماعى فى المجتمعات التقليدية والقبلية، ولكن فعاليته مرتبطة بمجتمعات منغلقة على ذاتها وبعيدة عن سلطة الدولة، حيث يكون السبيل لتنظيم العلاقات الداخلية للجماعة بغض النظر عن تقييمنا له، وهذا هو المستوى الثالث. ولكن بفعل عمليات التحضر المتسارعة والتى لا تخلو من عدم اتساق وعشوائية، فإن المجتمعات التقليدية لم تعد منغلقة ومتجانسة كما كان الأمر فى السابق. وياخذنا هذا إلى المستوى الرابع وهو تحلل المجتمعات التقليدية رغم بقاء الذهنية التقليدية، فنجد محاولات لفرض “العرف” كوسيلة تنظيم ولكن بشكل مضطرب وغير متسق وغير فعال. وفى هذا المستوى تبرز مشكلة وهى غياب القانون وعدم فعالية العرف. وبين إضطرابات القانون وتراجع الأعراف، يظهر المستوى الخامس وهو الأكثر حدة، حيث يغيب القانون وتغيب الأعراف، وبالتالى تغيب أية معايير بالمعنى الحديث أو التقليدى، وهذه المنطقة عشوائية تماما وبلا معايير أو قيم. ومن ثم فهى منطقة اضطرابات وجرائم وعنف تحكمها البلطجة وشريعة الغاب. ومع الأسف، فإن هذا المستوى الذى تعمه الفوضى والعشوائية يزداد اتساعا بسبب أزمة حكم القانون من ناحية، وتحلل الأنماط التقليدية للتنظيم الاجتماعى من ناحية أخرى.
وبهذا المعنى، فإننا أمام مشكلة معقدة ومتعددة المستويات، فى كثير من الأحيان لا نجد القانون موجودا والعرف بلا قيمة. وقد يكون من باب الوهم والتوهم اللجوء إلى الحلول العرفية لتدارك العجز القانونى، كما أنه من الخطأ أن نتصور أن استخدام مثل هذه الحلول يعنى التوافق مع واقع اجتماعى تقليدى، لأن هذا الواقع ذاته قد أصابه التحلل. وبالطبع فإن الحل الوحيد هو أن يتسع مجال حكم القانون ليشمل المستويات الأخرى، أى مستوى الخلل فى تطبيق القانون، والمجال التقليدى الذى يتحلل بوتيرة متسارعة، وأخيرا المستوى العشوائى الذى يزداد اتساعات ويتغذى كالطفيليات من غياب القانون وتحلل البنى والهياكل التقليدية. وفى النهاية فإن سيادة حكم القانون ليست بالعملية السهلة لأن لها أبعادها السياسية والاقتصادية والتربوية. وللأسف فإن المؤشرات الراهنة لا تعزز كثيرا الطموحات المدنية نحو حكم القانون وإصلاح ما به من خلل وإضطراب، بقدرما هى فى اتجاه زيادة مساحة الفوضى والعشوائية واللاقانون واللاعرف.