ارتبط بالأحداث الأخيرة التى شهدتها وتشهدها نقابة الصحفيين حوارات متكررة حول طبيعة العمل النقابى وعلاقته بالعمل السياسى، فهل على النقابات أن تنشغل فقط بالمهام النقابية؟ أم أنها كذلك ساحة للفعل السياسى؟ وعلى الرغم من أن الأسباب التى دفعت لاحتدام الموقف بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية ليس لها علاقة بالسياسة بالمعنى المباشر للكلمة، إلا أن طريقة الاحتجاج كانت ذات صبغة سياسية. ويرتبط ذلك بمناخ عام فائق التسييس يجعل من أى حدث صغيرا كان أم كبيرا حدثا سياسيا، وخاصة وأن الأحداث تتجاوز حدودها الواقعية بدخولها ساحة وسائل التواصل الاجتماعى الخارجة عن السيطرة شئنا أم أبينا.
وفى الحقيقة أنه الحدود الفاصلة بين السياسة وكافة مجالات الفعل الاجتماعى باتت غير محددة وغائمة إلى حد كبير. فمن ناحية أولى، هناك سلطة ترى فى أى نشاط اجتماعى فعلا سياسيا يتطلب الحذر وربما العقاب، إن كل فعل يحمل سوء نوايا بالمعنى السياسى، حتى لو تعلق الأمر بتنظيم حفل فنى فى مكان عام أو تنظيم أى نشاط ليس له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد. ومن ناحية ثانية، هناك مجموعات نشطة سياسيا، تجد فى أى فعل اجتماعى مبررا لرفع الشعارات السياسية، وبالتالى تحميلها بأكثر مما تحتمل مما يؤدى إلى إفسادها فى كثير من الأحيان. فقط علينا أن نتذكر أحداث نقابة الأطباء، وكيف أن تسييس المواقف إرتفع بسقف المطالب إلى درجة عدم الوصول إلى شئ محدد .
والمشكلة أنه من الصعب الفصل بين العمل النقابى والمجال السياسى فى سياقات معينة، إلا أن السؤال الأهم فى هذه الحالة هو: هل من المفترض أن يخدم العمل النقابى الأهداف السياسية الكبرى مثل تغيير النظام مثلا؟ أم العكس، بمعنى أن يخدم العمل السياسى تحقيق أهداف نقابية محددة؟ قد يميل البعض إنطلاقا من دوافع سياسية إلى الفرضية الأولى، وقد يميل البعض الآخر لأسباب سياسية إلى الفرضية الثانية. ومع ذلك علينا أن نفترض بأن العمل النقابى عندما يكون واضحا ومحددا فإنه قد يتقاطع مع السياسية ولكن بدون أن يذوب فيها وبدون أن تحرفه عن مساره، أما إذا سيطر العمل السياسى على المجالات النقابية، فسوف يؤدى بها، لامحالة إلى الانحراف عن مسارها. ولتأكيد هذه الفرضية علينا أن نستدعى نموذجين لتسييس النقابات، يتعلق الأول بدور الدولة، والآخر يتعلق بدور الإسلام السياسى. إن عمليات تأميم النقابات التى مارستها الدولة على مدار عقود طويلة، ليست إلا نوعا من التسييس السلبى، والذى تم بمقتضاه تفريغ العمل النقابى من محتواه، وإذا أردنا الإنصاف فإن التسييس السلبى يعد من أهم سمات علاقة المجال النقابى بالمجال السياسى. أما بالبنسبة للإسلام السياسى، فقط علينا أن نتذكر حالة وتوجهات النقابات المهنية، خاصة خلال عقد التسعينيات، مع سيطرة جماعات الإسلام السياسى عليها، فبدلا من الدفاع عن مصالح أعضائها، أصبح الخطاب النقابى أكثر انشغالا بالدفاع عن الأمة الإسلامية، أو بتعبير أدق عن مشروع الإسلام السياسى، فبات “الإخوة والأخوات” فى البوسنة والهرسك، أهم من الأعضاء المحليين. وإذا كان فعل الدولة يمكن وصفه بالتسييس السلبى، فإن فعل الإسلام السياسى يمكن وصفه بالإنحراف المؤسسى للنقابات.
وما بين التسييس السلبى، الذى هو أداة للسيطرة على العمل النقابى، وبين الانحراف المؤسسى الذى جاء نتيجة لإخضاع العمل النقابى لأغراض سياسية معينة، تبقى هناك مساحة للتواصل بين العمل النقابى المستقل والمتحرر من الهيمنة، والعمل السياسى الهادف إلى تحقيق مصالح عامة لا يمكن تجاهلها من قبل الفاعلين الاجتماعيين، وهذه المعادلة، رغم بساطتها، إلا أنها الأكثر صعوبة لسبب بسيط، وهو أن هناك من يريد أن تكون النقابات خاملة سياسا، كما أن هناك دائما من يريد اقتناص النقابات لخدمة أهداف وأغراض سياسية. فهل ستنجح النقابات فى حل هذه المعضلة؟ وهذا أيضا سؤال سياسى.