شهدت الدولة فى فى مصر تحولات مهمة على مدار الربع القرن الماضى منها ما هو عالمى، ومنها ما هو إقليمى، وكذلك التحولات على المستوى المحلى أو الوطنى، وهى فى مجملها تحولات تمنعها من الإرتداد للخلف، فى وقت يفتقر إلى الإرادة والمقومات اللازمة للمضى قدما نحو الأمام. وهذا هو المأزق الذى نعيشه، فالحاضر ليس إلا لحظة متوترة بين ماض تآكلت جذوره ومستقبل لا تُزهربراعمه.
لقد انتهى القرن الماضى بانهيار مروع للكتلة الشرقية، وخرج حصان الاشتراكية من ساحة الوعود السياسية. وكانت هذه بداية لتحول كبير فى فكرة الدولة، وهو التحول الذى يجرى إنكاره وعدم الاعتراف به من قبل دول المنطقة العربية. ولم تكن الاتجاهات القومية أوفر حظا، فقد تآكل ما تبقى من الفكرة القومية لتسقط تماما بسقوط أحد أهم رموزها أو مدعيها، صدام حسين. وهكذا أصبح شعار القومية او الأمة العربية محل شك وخاصة بين الأجيال الجديدة. ولم يبق على الساحة غير مشروع الدولة والأمة الإسلامية والذى لفظ أنفاسه، هو الآخر، فى ظل الربيع العربى. لقد تهاوى الماضى بمشاريعه الكبرى، ولعل الملمح الأهم للربيع العربى ليس بناء مشاريع للمستقبل، وإنما إعلان وفاة المشاريع الكبرى التى سيطرت على الأذهان لعقود طويلة على مدار النصف الثانى من القرن العشرين. وما تبقى منها ليس إلا رهانات مذهبية وخطابية.
صحيح أن الألفية الجديدة شهدت رهانات بشأن بناء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ولكن مع الأسف فحتى هذه الرهانات أصابها وباء اللاشرعية، فهى رهانات تراوح مكانها ولا تخطو خطوة واحدة نحو الأمام. فعلى الرغم من أنها لم تسقط على طريقة الأفكار الاشتراكية والقومية والاسلامية، إلا أنها وُلدت مصابة بالهشاشة إما بسبب عدم وجود حراك اجتماعى قوى يدعمها ويؤسسها، وإما بسبب الهجمات المتواصلة على الحقوق والحريات بزعم الحفاظ على الأمن ومكافحة الإرهاب. والملاحظ أنه فى ظل غياب قوى فعلية لتأسيس الديمقراطية، بات الرهان عليها مسألة نوايا، ومع ذلك فإن النوايا الحسنة ليست كافية لترسيخ الديمقراطية، كما أن النوايا السيئة ليست شرطا لهدمها، فالديمقراطية لم ولن تكون صراع نوايا، ولكن صراع مصالح وإرادات لم تتوافر بعد.
والمأزق الفعلى هو أن المجال السياسى يعانى من التصحر الفكرى والسياسى، فهو مجال بات خاليا من الأحلام والأوهام. فلم يعد الماضى يسعفه، ولم يعد الحاضر محطة انتقال من الماضى للمستقبل. ومشكلة الحاضر تتمثل فى اختزاله ليكون ساحة للمنازعات الآنية، وردود الأفعال اللحظية، والحفاظ على مصالح ومكتسبات ضيقة. ولذا فإن المستقبل بات عاريا ومكشوفا بلا أحلام ولا أوهام. فما الذى تبقى لنا لكى نحلم بالخلاص؟ ربما تكون الاجابة غير جاهزة، ولكن الميزة التى لا يمكن تجاهلها هى أن الماضى لن يعد النبع الأيديولوجى والسياسى الذى سيروى أحلامنا أو أوهامنا، لم يعد أمامنا فى التعامل مع الحاضر، وحتى لو كان مجرد صحراء، فالصحارى قابلة لأن تُستزرع إذا توافرت الإرادة والمقومات.