أصبح الحديث عن الآثار الاجتماعية والنفسية المرتبطة باستخدام وسائل الاتصال الاجتماعى معرفة، وبالطبع هناك دراسات متخصصة فى هذا المجال، سواء تعلق الأمر بجرائم الإنترنت، أو التأثيرات الإيجابية أو الضارة على العلاقات الاجتماعية وصولا إلى التأثيرات النفسية على الصغار والكبار بسبب الإرتباط الشديد بهذه الوسائل والتى باتت لدى الكثيرين نوعا من الإدمان. ولأن مجال التواصل الاجتماعى مفتوح على مصرعيه لمختلف الآراء والأفكار والتوجهات، فقد بات شائعا أن تكون هناك تعبيرات عنصرية، وآراء تحض على الكراهية، فضلا عن التحيزات الجنسية إلخ. وعلى الرغم من أن مثل هذه الممارسات قد تكون مجرمة فى بعض البلدان، كما أنه يمكن الإبلاغ عنها للمسئولين عن إدارة وسائل الاتصال الاجتماعى وتحديدا الفيسبوك، إلا أن التدفق الهائل للأراء والتعبيرات يجعلها موجود باستمرار، إما بصورة عمدية أو بصورة عفوية.
ولكن ثمة ظواهر أخرى يمكن أن تشكل نوعا من الإيذاء قد يراها البعض طبيعية وقد يراها البعض الآخر سلبية، ويصعب تجريمها أو الإبلاغ عنها لأنها تُصنف، فى نهاية الأمر، على أنها آراء أو وجهات نظر شخصية وليست موجهة مباشرة ضد شخص أو جماعة بعينها. وما أعنيه هو التعبير بالألفاظ والصور عن مواقف الهدف منها توجيه إهانة إلى جماعة أو اتجاه بدون ذكر أو وصف طبيعة هذه الجماعة أو هذا الإتجاه إلا بتعبيرات انتقامية أو عدوانية عامة ومطلقة، وغالبا ما تضمن أحكام مثل الجبن والتخاذل وعدم الشرف إلخ. وترتبط هذه المواقف بالأوقات واللحظات التى يحدث فيها استقطابات سياسية أو ثقافية. وغالبا ما تأتى هذه الممارسات من أشخاص يعتبرون أنفسهم أكثر شرفا أو وطنية من غيرهم. وقد لاحظنا فى مناسبات عديدة فى سياق ما يسمى بالربيع العربى، كيف دأب من يعتبرون أنفسهم أكثر ثورية أو شرفا من غيرهم على استخدام تعبيرات وألفاظ فى إهانات للآخرين بصورة مطلقة. ولا يغيب عن الأذهان تعبير “حزب الكنبة” والذى تم استخدامه بشكل واسع من قبل من يعتبرون أنفسهم يمثلون حالة “ثورية” مطلقة. وحزب الكنبة تعبير غير محدد، ولا ينطوى فقط على إهانة ورغبة فى الإيذاء، ولكن الإعلاء من شأن الذات من خلال التقليل من شأن أطراف أخرى غير محددة.
ومع الأسف الشديد، فكما يأتى التكفير من قبل اللاهوت الدينى، والذى يحاسب الآخرين وفقا لأهوائه ومنطلقاته، فثمة لا هوت افتراضى يزعم أنه يمثل قيمة سياسية أو ثقافية أو حقوقية، وهو ما يعطيه الحق فى تكفير الآخرين ووصمهم بالجبن أو الخيانة. والأمر أشبه بطريقة “الردح الذكورى” فى الأحياء الشعبية، عندما يتوسط شخص عدوانى الشارع ويهتف بأعلى صوته “يا حارة مفيهاش رجالة”. وفى الحقيقة أنه قد يقصد شخص بعينه، ولكنه، من منطلق استعراض القوة، يوجه إهانته بصورة عامة ومطلقة. ولكن المجال الإفتراضى مختلف، لأنه أرحب وغير ملموس، حتى الشخص الذى يستعرض شرفه أو قوته، قد يكون فى مكان ما فى العالم منعزل تماما عن القضية التى يدعى شرف الدفاع عنها.
وقد لا تنطوى مثل هذه الممارسات على إيذاء بالمعنى المباشر، إلا فى حالة تفاعل المتلقين معها واعتبار أن الألفاظ أو التعبيرات المهينة موجهه إليهم بشكل شخصى. ولكن المؤكد أنها تنطوى على رغبة فى الإيذاء، وهى رغبة قد تكون لها أسباب سياسية أو ثقافية أو نفسية. والأمر الآخر الذى يرتبط بمثل هذه الممارسات لا ترتبط بالضرورة بتعبيرات ينتجها الشخص الذى يتعمد الإيذاء، ولكن من الممكن الاستعانة باقتباسات من أقوال لمشاهير صدرت فى سياقات ومناسبات مختلفة. ومن ناحية ثالثة، فإن سمة مثل هذه الممارسات أنها ترتكز فى الغالب على مفهوم “الشرف”، سواءالشرف السياسى أو شرف الإنتماء إلى فكرة أو قيمة، ومن خلال احتكار “الشرف” يتم نزعه عن الآخرين.
لا عتقد أنه ليس من السهل معالجة مثل هذه الظواهر، لأنها فى نهاية الأمر خارج أطر المحاسبة وتعتمد على تقديرات شخصية، والأمر الأهم أنها تبدو لقطاعات واسعة مسألة طبيعية، تماما مثل أشكال التواصل العنيف بين مشجعى الفرق الكروية، ولكن الفرق أن الإيذاء الإفتراضى يبدأ برغبة من طرف واحد يشجع ذاته.