أثارت موجات الهجرة إلى الغرب القلق بشأن قدرة المجتمعات الغربية على استيعاب الأعداد الكبيرة من القادمين الجدد من مجتمعات يجرى النظر إليها على أنها مختلفة ثقافيا وقيميا.
وكالعادة فقد صاحب تدفق المهاجرين واللاجئين زيادة ملحوظة فى المواقف العنصرية والخوف من الأجانب. وما زاد الطين بلة الأحداث المأساوية التى شهدتها العاصمة الفرنسية باريس. وهكذا طفا على السطح الجدل بشأن واقع ومستقبل التعددية الثقافية فى أوروبا. ومن بين الآراء الملفتة ما اعتبرته ماورد فى مقال مطول نشرته مجلة فورين أفير الأمريكية Foreign Affairs بعنوان “فشل التعددية الثقافية” للباحث كينان مالك واعتبرته أحد أهم ما نُشر خلال عام 2015. والملفت للنظر ليس التعددية الثقافية وإنما الحديث عن فشلها ، أى فشل الشعار الأهم الذى رفعته “الديمقراطيات” الغربية فى أعقاب الحرب الباردة. ويتضمن المقال تحليلا تاريخيا لفهم التعددية فى أوروبا، ومحور الفكرة أن التعددية شهدت تحولات هامة، فبعد أن كانت مسألة اجتماعية وطبقية، باتت منذ عقود قليلة مسألة ثقافية وعرقية بامتياز.
يقول الكاتب أنه على على مدار العقود القليلة الماضية تضاءلت أهمية الطبقة في أوروبا كتعبير عن فئات سياسية وعلامة على الهوية الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، أصبحت الثقافة مركزية على نحو متزايد ينظر من خلالها الناس إلى الاختلافات الاجتماعية. وانحسرت الانقسامات الإيديولوجية التي ميزت السياسة لزمن طويل على مدار 200 الماضية، وأصبحت الفروق القديمة بين اليسار واليمين أقل أهمية. وفى إشارة دالة إلى هذا التحول يقول الكاتب أنه مع فقدان الطبقة العاملة لقوتها الاقتصادية والسياسية، وتراجع دور المنظمات والأيديولوجيات العمالية، تحولت الاختلافات من النقابة إلى الكنيسة. ولم يعد الناس فى أوروبا مهتمون بتحديد المجتمع الذى يريدون بناؤه، بل بتحديد الجماعة التى يرغبون فى الإنتماء إليها.
ويشير كذلك إلى نقطة هامة، وهى أن التعددية، كأداة سياسية، لم تعمل فقط كاستجابة لواقع التنوع، الناشئ بفعل الهجرة عادة، ولكن أيضا كوسيلة لتقييد ذلك التنوع. فسياسات التعددية الثقافية تقبل التنوع فى المجتمع كأمر مسلم به، إلا أنها تفترض ضمنا أن هذا التنوع ينتهي عند حدود الأقليات حيث يتم وضع الناس فى قوالب عرقية وثقافية، وكأنها كيانات متجانسة، ومن ثمتحديد احتياجاتهم وحقوقهم وفقا لذلك. هذه السياسات، بعبارة أخرى، قد ساهمت سياسات التعددية في خلق الانقسامات ذاتها التي كان من المفترض أن تعمل على إدارتها. وفى الواقع أن معاملة المهاجرين كمجموعات ثقافية أو عرقية متمايزة، والنظر إلى الأمور من منظور ثقافى يخلق مشكلة مزدوجة، فلا نعرف إذا كان أعضاء هذه الجماعات يرغبون فى التمايز عن غيرهم أم أنهم يعانون من التمييز وعدم معاملتهم كغيرهم.
وبطريقة مبالغ فيها تم تقديم التعددية الثقافية بوصفها المشروع الحضارى الأكبر والمفتاح السحرى لحل كل مشكلات عالمنا المعاصر، تحميلها بكل المهام والآمال الكبرى كالتعايش السلمى والتواصل الحضارى ونبذ العنف والقضاء على الكراهية والاعتراف بالحقوق. والنتيجة التى وصلنا إليها هى أن أى من هذه القيم لم يتحقق، فالتعايش أصبح أصعب من ذى قبل، والعنف تطور إلى جرائم “مشروعة” ضد الإنسانية، والكراهية تزداد يوما بعد يوم، والاعتراف بالحقوق لم يعد موجودا إلا فى مواثيق دولية تحرقها ألسنة الحروب والإرهاب والاستبداد.
إن المشكلة الكبرى فى سياسات التعددية الثقافية ليست فى التعددية وإنما فى السياسات التى همشت المحددات الاجتماعية والطبقية، وكأن القيم هى التى ستحرر الفقراء من الخوف والحاجة، وليس الحق فى الغذاء والصحة والسكن. وكما يقول راسل جاكوبى فى كتابه نهاية اليوتوبيا أن التعددية أصبحت “أيديولوجيا عصر بلا أيديولوجيا”، وأن المشكلة ليست فى التعددية وإنما فى عبادتها”.