لو تصورنا أن الوهم سلعة تباع وتشترى ، وهى كذلك بالفعل، فإن أكبر تجارة فى تاريخ البشر هى تجارة الأوهام ، وسمة هذه التجارة أنها منتشرة فى الزمان والمكان ، فهى تتغير وتتلون بتغير الزمان ، كما أنها يمكن أن تكون محلية جداً ويمكنها أن تكون عابرة للحدود، وفوق هذه وذاك أنها فى أغلب الأحيان لا تحتاج إلى استثمارات ولا تعانى أى نوع من الندرة . وكل إنسان هو بائع أو مشترى أو مروج أوهام سواء علم بذلك أو لم يعلم . وهى صفة إنسانية، بمعنى أنها تخص الإنسان دون سائر الكائنات الحية لسبب بسيط وهو أن الإنسان هو الذى ابتدع اللغة والرموز، وهى أداة التعامل والتبادل والمقايضة فى سوق الأوهام. ومع ذلك فإن تجارة الأوهام يمكن أن تكون رمزية أو مادية، فقد نبيع كلاماً مقابل كلام آخر أو مقابل ولاءات ، وقد نبيع كلاماً مقابل أشياء مادية قد تكون أموالاً أو أجساداً، وقد نبيع أشياء مادية وهمية، مقابل مردود مادى فعلى، وأخيراً فكثيراً ما نشترى أوهاماً مقابل ما نعتقد أنه السعادة وراحة البال.
وطالما أن الأمر يتعلق بالكلام ، فإن اول ما يتبادر له الذهن فى سوق الأوهام مجالين أساسيين ارتبطا بنوع معين من اللغة هما السياسة والدين. وليس صعباً على أى منا أن يدرك كما من الأوهام السياسية والدينية نشتريها ونتبادلها ونروجها فى حياتنا العامة والخاصة. فقط عليك أن تتصفح جريدة صباحية لتكتشف أن الاعلانات السياسية ربما تفوق الإعلانات التجارية. أما الخطاب الدينى، عندما يفقد مغزاه الروحانى وانحرافه عن مسار الصالح العام، فإن ما يتبقى منه ليس سوى أوهاما يتم تداولها ونشرها. والأمر الخطير فى هذا الحالة أن هذه الأوهام تصبح تكلفتها أعلى لأنها مقدسة، وكثيرا ما كلفت البشر حياتهم، فقد تدفع معتنقيها إلى القتل باسمها، إنها مثل الأساطير التى تتطلب الكثير من القرابين.
ومع ذلك فإن سوق الأوهام أوسع بكثير من السياسة والدين، ففى مجال الإقتصاد، الذى من المفترض أن يكون مجال السلع االمادية، أصبحنا نشترى ونتبادل أوهاما، وقد ندفع مقابلها مبالغ طائلة، إن كل شئ قابل لأن يُباع ويُشترى، إن السلعة المادية باتت مجرد سلع استهلاكية ، وكلما إزددنا غنا أو فقرا، زاد المعروض من الأوهام وزاد الطلب عليها. وهكذا أصبحنا نشترى لكى نسد جوع أوهامنا. وهكذا أصبح الإنسان مدمراً للبيئة بسبب الوفرة فى انتاج وتبادل سلع ليس لها أى فائدة فعلية. وجزء أساسى من الأوهام أننا ندفع مقابل الحصول على مكانة اجتماعية مزعومة، أو لنحصل على معايير جمال مفروضة، وقدرات جسدية وجنسية ليست إلا صورة. حتى العلاقات الشخصية باتت سوقاً كبيراً للأوهام، صحيح اننا نتبادل الاحترام والعطف والحب والألم والخوف وغيرها من المشاعر، ولكننا فى الوقت ذاته نتاجر بكل هذه المشاعر.
ومفارقة سوق الأوهام أننا ندركه ولا ندركه ، فعندما نستمع إلى خطاب سياسى مبتذل وسطحى ، أو كلمات متخلفة لرجل دين، او إعلانات وهمية عن أدوات تجميل ومنشطات جنسية، أو سلع ليس لها معنى أو وجود، فقد يُصاب البعض باشمئزاز أو قد يثور غضباً ، ولكن علينا أن نتريث لأن هذه الظواهر هى ضمن عملية عرض وطلب فى سوق الأوهام الذى يخلق تجاره وزبائنه، فهناك من يبيع لأن هناك من يشترى، وقد يتم هذا برعاية مؤسساتية إعلامية وثقافية ودينية. إنه سوق الأوهام الذى يعيش على الجهل ويصنعه، والجهل الذى أتحدث ليس فقط أمية القراءة والكتابة، ولكن وقبل كل شئ الغباء الإنسانى. فكم من الأوهام نشترى لكى نجعل من أنفسنا أوهاماً .