النجاح حلم يراود الإنسان عبر الزمان، وهدف منشود يسعي إلى تحقيقه، والإنسان السوي لا يرغب في النجاح فحسب بل ومواصلة النجاح في مجالات الحياة المتعددة الشخصية والأسرية والعلمية والعملية والإجتماعية والمادية وكذلك في كل مراحل حياته العمرية.
فمَنْ يختبر مذاق النجاح يتوق إلى إحراز نجاحات أخرى، فالنجاح كما يقال رحلة لا مرحلة، وهي رحلة لا محطة فيها، إنه ليس هدفاً إنما درجة في سلم نرتقيه.
النجاح في حقيقته بداية وليس نهاية، فليس هناك محطة وصول للنجاح نستطيع أن نقول عندها إننا وصلنا إلى آخر محطة.
فصدق مَنْ قال: إن النجاح الذي يعقب النجاح الأول يدفع الشخص لإدمان النجاح.
هذا ولابد أن نضع في إعتبارنا أن للنجاح ثمنه وضريبته ولابد لمَنْ يبتغي ويرنو للحياة الناجحة أن يكون على إستعداد لدفع الضريبة والثمن عن طيب خاطر وبكل سرور.
في هذا المقال وما يليه في الأعداد القادمة سنرى الأسرار التي ثقف وراء كل ناجح ومتميز وهي كثيرة جداً أذكر منها الآتي:
الفصل الخامس والعشرون : ركيزة النجاح الهدوء
يقول الرسول بولس في (1تس4: 10، 11) “أطلُبُ إلَيكُمْ أيُّها الإخوَةُ أنْ تحرِصوا علَى أنْ تكونوا هادِئينَ” ويقول الحكيم في (أم15: 4) ” هُدوءُ اللِّسانِ شَجَرَةُ حياةٍ” ومكتوب في سفر الجامعة (جا10: 4) “الهُدوءَ يُسَكِّنُ خطايا عظيمَةً”. وفي ترجمة أخرى ” الهدوء يسكن خطايا كثيرة”
نعم! ما أجمل أن يعيش الإنسان حياة الهدوء. هدوء النفس، هدوء القلب، هدوء الفكر، هدوء الأعصاب، هدوء في الكلام، هدوء في التصرف.
فالإنسان الهادئ شخصيته جميلة وجذابة ومحبوبة من الناس، فالهدوء يضفي جمالاً متميزاً مريحاً يبدو على وجه صاحبه. كما يقول الرسول بطرس ” زينَةَ الرّوحِ الوَديعِ الهادِئ، الذي هو قُدّامَ اللهِ كثيرُ الثَّمَنِ”(1بط3: 4).
لذلك طوب الرب يسوع الودعاء فقال في موعظته على الجبل ” طوبَى للوُدَعاءِ، لأنَّهُمْ يَرِثونَ الأرضَ”(مت5: 5).
والهدوء له علاقة وثيقة ووطيدة بفضائل أخرى مثل:
1. الهدوء له علاقة بالمحبة:
فالإنسان المحب يكون هادئاً في علاقته مع الناس، لا يثور لأتفه الأسباب، أما الكراهية إذا دخلت إلى قلب إنسان تحوله كالبركان الثائر الذي لا يهدأ قبل يدمر ويحطم.
فبالهدوء والمحبة يتلاقي الناس مع بعضهم ليحلوا مشاكلهم بحيادية وموضوعية وبحلول ترضي جميع الأطراف، ٍأما إذا إنتفى وإختفى الهدوء فإن الحب أيضاً يختفي معه، فلا يمكن أن الحب يتواجد في حوار صاخب، وصراع عنيف، وتعصب للرأي، وإعتداد بالذات، فشتان الفرق بين حب النفوذ ونفوذ الحب.
2. وترتبط فضيلة الهدوء بالسلام:
فالإنسان الهادي غالباً ما يكون مسالماً، والإنسان المسالم يكون هادئاً، الهادئ لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته” كما قيل عن الرب يسوع في (مت12: 19) فالإنسان الهادئ يعيش في سلام مع الناس، لا يتشاجر مع أحد ولا يخاصم أحد، ولا يحل مشاكله مع الناس بالعنف وإنما بالهدوء، والذي يحتفظ بهدوئه يحتفظ بسلامه الداخلي.
نعم! من المحتمل أن السلام يُفقد بين عنيف وعنيف، ولكنه لا يُفقد بين عنيف وهادئ، لأن الهادئ يحتمل العنيف كما قيل [إن النار لا تطفئها نار بل يطفئها الماء].
3. ترتبط فضيلة الهدوء بالوداعة والتواضع:
الهدوء مظهر من مظاهر الوداعة، حتى أن أسميهما قد يتبادلان المواقع، فحينما نتحدث عن الإنسان الهادئ نتكلم عن الإنسان الوديع، والعكس صحيح عندما نتحدث الوديع نتكلم عن الهادئ. والإنسان الذي يفقد هدوءه لا شك أنه يفقد وداعته، وصدق مَنْ قال” الإنسان المتواضع لا يًُغضب أحداً، ولا يغَضب من أحد”. فالعلاقة بين الهدوء والوداعة علاقة حيوية لا تنفصم على الإطلاق.
نعم! ما أحوجنا أن نتعلم من المعلم الصالح الذي قال ” تعَلَّموا مِنِّي، لأنِّي وديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ، فتجِدوا راحَةً لنُفوسِكُمْ”(مت11: 29).
4. وهناك علاقة بين الهدوء والعمق:
الإنسان السطحي غالباً ما تراه صاخباً وساخطاً وغاضباً كموج البحر الصاخب على السطح، أما الإنسان العميق في تفكيره مثل عمق البحر في هدوءه، لذلك مَنْ يدرب نفسه على الحياة الهادئة سيكتسب كيفية التفكير بعمق وإتخاذ القرارات الحكيمة.
فبالهدوء يجعل يفكر الإنسان تفكيراً متزناً سليماً، ويمكن أن يحل مشاكله بأعصاب غير مضطربة، وفكر غير مشوش، أما إذا فقد هدوءه فإنه يضطرب ولا يجد حلاً.
5. علاقة الهدوء بحياة الإيمان:
الذي يحيا حياة الإيمان يعيش في هدوء لأنه سلم حياته بالتمام للرب، ويقبل كل شيء بإيمان من يديه الحانيتين فلا يضطرب لشيء، ولا يتضايق من شيء، بل يكون هادئاً بإستمرار شعاره في ذلك “كُلَّ الأشياءِ تعمَلُ مَعًا للخَيرِ للذينَ يُحِبّونَ اللهَ”(رو8: 28).ويمكنه أن يشدو مع داود”إنْ نَزَلَ علَيَّ جَيشٌ لا يَخافُ قَلبي. إنْ قامَتْ علَيَّ حَربٌ ففي ذلكَ أنا مُطمَئنّ”(مز27: 3). وبعكس ذلك مَنْ لا يتمتع بحياة الإيمان والتسليم للرب تتعبه أفكاره، ولا يهدأ أبداً، وإن إجتاز في مشكله أو تجربة تزعجه وترهقه، وإن إختلف مع شخص آخر يخرج عن هدوءه.
نعم! ما أجمل ما سطره القديس أوغسطينوس في كتاب إعترافاته عندما قال “سيظل قلبي مضطرباً إلى أن يجد راحته فيك” ذلك لأن هدوء القلب والفكر ليس مصدره العالم وشهواته ورغباته، وإنما مصدره الله وحده.
إن الخطية تعكر هدوء الإنسان كما قال الوحي “لا سلامَ، قالَ الرَّبُّ للأشرارِ”(إش48: 22) ومكتوب ” أمّا الأشرارُ فكالبحرِ المُضطَرِبِ لأنَّهُ لا يستطيعُ أنْ يَهدأَ، وتقذِفُ مياهُهُ حَمأةً وطينًا. ليس سلامٌ، قالَ إلَهي، للأشرارِ.(إش57: 21، 22). فنقرأ عن قايين فقد هدوءه بعد قتله لأخيه هابيل وصرخ قائلاً: “فيكونُ كُلُّ مَنْ وجَدَني يَقتُلُني”(تك4: 13، 14).
وشهوات العالم مصدر رئيسي للقلق والحيرة وعدم الهدوء فالذي يجري وراء الشهوات ويستعذبها تعذبه، وتصارعه وتصرعه إذ يظل يفكر كيف يحقق ما يشتهيه؟ وكيف يصل إليه؟ وما هي الصعاب التي تعترضه؟ ومَنْ الذي ينافسه ويزاحمه؟ وكيف ينتصر عليه بأي أسلوب وبأي ثمن؟ وبالتالي يفقد هدوءه وسلامه.
نعم! لقد صدق أوغسطينوس حينما قال: ” جلست على قمة العالم حينما أحسست في نفسي إني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً”
فكل مَنْ يعيش بعيداً عن الله لا يمكن أن يعرف مذاق الهدوء، ويظل قلبه مضطرباً تعصف به الأهواء إلى أن يعرف الله معرفة إختبارية، وعندئذ فقط يجد الهدوء والسلام كمسافر في بحر مضطرب وصل إلى ميناء الأمان.
وللهدوء فوائد كثيرة أذكر منها:
1. الهدوء مصدر قوة :
في إشعياء (إش30: 15ب) “بالهُدوءِ والطُّمأنينَةِ تكونُ قوَّتُكُمْ”. دائماً الشخص الهادئ هو الشخص الأقوى، أقوى لأنه إستطاع أن يتحكم في أعصابه وفي ألفاظه، وأقوى لأنه إرتفع فوق مستوى الإثارة، وأقوى لأنه في هدوءه يمكنه أن يتحكم في المواقف، وأن يفكر في حل المشكلة بدون إنفعال، ولهذا قال الرسول بولس في (رو15: 1) ” يَجِبُ علَينا نَحنُ الأقوياءَ أنْ نَحتَمِلَ أضعافَ الضُّعَفاءِ”.
الشخص الغير هادئ نفسياً يضع هموم الدنيا فوق رأسه فيفقد سلامه الداخلي، وقوته، ويصبح فريسة للقلق والإضطراب النفسي ويحس ويشعر بالكآبة والحزن، ويشعر بالإحباط واليأس، وقد يصاب نتيجة لذلك بأمراض عديدة عضوية ونفسية.
2. الهُدوءَ يُسَكِّنُ خطايا كثيرة:
هذه الكلمات جاءت في سفر الجامعة10: 4 فكم من مشاكل كان الهدوء هو السبب في إحتواء المشكلة والإنهاء عليها.
لاشك أن الطريقة الهادئة أكثر تأثيراً في النفس وتأتي بنتائج أفضل، أما الطرق العنيفة تأتي بردود فعل سيئة وسلبية. فلقد قال الحكيم ” لجَوابُ اللَّيِّنُ يَصرِفُ الغَضَبَ”(أم15: 1).
ويقول في (أم15: 4) ” هُدوءُ اللِّسانِ شَجَرَةُ حياةٍ”.
نعم! الشخص الثائر الأعصاب يؤذي نفسه نتيجة لإعصابه غير الهادئة، كما يؤذي غيره أيضاً.
تؤكد أبحاث عملية كثيرة أن غالباً معظم أمراض الضغط والسكر والقلب والأمراض النفسية العديدة نتيجة للتشنج والتوتر وعدم الهدوء.
نموذج للهدوء [الرب يسوع]:
+ جاء في ملء الزمان في هدوء شديد حتى أن هيرودس الملك لم يشعر به، ولم يعلم لا مكان ولا زمان ولادته.
+ صنع معجزات كثيرة في الخفاء دون أن يراها أحد حتى أننا نقرأ في (يو21: 5) عن معجزاته الكثيرة” إنْ كُتِبَتْ واحِدَةً واحِدَةً، ما كان العالَمَ يَسَعُ الكُتُبَ المَكتوبَةَ”.
+ كان يرد على معارضيه من الكتبة والفريسين والصدوقين والكهنة وشيوخ الشعب بهدوء شديد، وبمنتهى الموضوعية دون أن يثور على ألفاظهم النابية الجارحة، وهم يقولون عنه وله “بك شيطان” (يو8: 48) محب للعشارين والخطاة .. أكول وشريب خمر” (مت11: 29).
+ كان الرب يسوع يأخذ تلاميذه إلى موضع خلاء أحياناً ويأخذهم إلى الحقول والبساتين، وأحياناً يكلمهم على الجبل أو عند شاطئ البحيرة ملتمساً الهدوء.
+ ساعة القبض عليه قال في هدوء شديد لمَنْ أرادوا القبض عليه مَنْ تطلبون؟! .. أنا هو (يو17: 5- 8). وفي هدوء يستقبل قبلة يهوذا دون أن يجرح شعوره، بل قال له .. “ياصاحِبُ، لماذا جِئتَ؟”. (مت26: 50).
+ ولما أراد بطرس أن يستخدم العنف، واستَلَّ سيفَهُ وضَرَبَ عَبدَ رَئيسِ الكهنةِ، فقَطَعَ أُذنَهُ. أمره الرب بإلتزام الهدوء قائلاً له: فقالَ لهُ يَسوعُ: “رُدَّ سيفَكَ إلَى مَكانِهِ. لأنَّ كُلَّ الذينَ يأخُذونَ السَّيفَ بالسَّيفِ يَهلِكونَ! (مت26: 51، 52).
+ وأثناء محاكمته كان هادئاً فمكتوب عنه بالنبوة في (إش53: 7)” كشاةٍ تُساقُ إلَى الذَّبحِ، وكنَعجَةٍ صامِتَةٍ أمامَ جازِّيها فلم يَفتَحْ فاهُ.” وفي مجلس السنهدريم وهم يوجهون له الإتهامات الكاذبة والباطلة مكتوب في (مر14: 61)” أمّا هو فكانَ ساكِتًا ولم يُجِبْ بشَيءٍ” وأمام بيلاطس وقف صامتاً هادئاً جداً وحينما كان يتكلم كانت إجاباته تذهل الوالي حتى قال:” إنِّي لا أجِدُ عِلَّةً في هذا البار”(لو23: 4).
+ بعد القيامة عندما إلتقى ببطرس والتلاميذ الذين معه على بحيرة طبرية (يو21) لما يعاتبه بأسلوب عنيف؟، كان يمكن أن يقول له تعال يا خائن يا ناكر يا هارب يا مَنْ قلت أنك لا تعرفني .. ألم تقل إن أنكرك الجميع فأنا لا أنكرك؟! أين شجاعتك ..؟ أين وفاءك؟ أين إخلاصك وحبك؟ … وإنما كل ما قاله له هو ” ياسمعان بن يونا أتحبني.. أرع غنمي.
+ نحتاج إلى هدوء اللسان (أم10: 19) فمكتوب “كثرَةُ الكلامِ لا تخلو مِنْ مَعصيَةٍ” ومكتوب(يع1: 26) “إنْ كانَ أحَدٌ فيكُم يَظُنُّ أنَّهُ دَيِّنٌ، وهو ليس يُلجِمُ لسانَهُ، بل يَخدَعُ قَلبَهُ، فديانَةُ هذا باطِلَةٌ”.
سر النجاح والتميز (9)