النجاح حلم يراود الإنسان عبر الزمان، وهدف منشود يسعي إلى تحقيقه، والإنسان السوي لا يرغب في النجاح فحسب بل ومواصلة النجاح في مجالات الحياة المتعددة الشخصية والأسرية والعلمية والعملية والإجتماعية والمادية وكذلك في كل مراحل حياته العمرية.
فمَنْ يختبر مذاق النجاح يتوق إلى إحراز نجاحات أخرى، فالنجاح كما يقال رحلة لا مرحلة، وهي رحلة لا محطة فيها، إنه ليس هدفاً إنما درجة في سلم نرتقيه.
النجاح في حقيقته بداية وليس نهاية، فليس هناك محطة وصول للنجاح نستطيع أن نقول عندها إننا وصلنا إلى آخر محطة.
فصدق مَنْ قال: إن النجاح الذي يعقب النجاح الأول يدفع الشخص لإدمان النجاح.
هذا ولابد أن نضع في إعتبارنا أن للنجاح ثمنه وضريبته ولابد لمَنْ يبتغي ويرنو للحياة الناجحة أن يكون على إستعداد لدفع الضريبة والثمن عن طيب خاطر وبكل سرور.
في هذا المقال وما يليه في الأعداد القادمة سنرى الأسرار التي ثقف وراء كل ناجح ومتميز وهي كثيرة جداً أذكر منها الآتي:
تاسعاً: النظام والترتيب من أسرار النجاح
الأولوية هي الأمر الذي يجب أن يأخذ الإهتمام الأول في حياتنا، وإذا إتفقنا على القيمة العظمى للوقت، وجب علينا أن ندرك أولوياتنا بكل الوضوح حتى نتمكن من توزيع الوقت في ضوئها توزيعاً صحيحاً وبالتالي لا نسقط في دوامة طغيان المتطلبات التي لا تحصى ولا تعد، والتي في زحامها يمكن أن تضيع رؤيتنا وأهدافنا. لكن إذا أمكننا تنظيم وتخطيط أوقاتنا بنجاح أمكننا أن نحيا ونعمل ونحقق مشيئة الله في حياتنا في إنجاز متصل ودائم وسط صخب الضغوط اليومية الهائلة.
قدم وليم تمبل تشبيهاً لعصرنا بواجهة محل بها عشرات السلع جاء إليها طفل صغير وبدأ يعبث بقائمة الأسعار، فوضع أغلى الأسعار على أرخص السلع، وأقل الأسعار على أغلى السلع، ثم قال: هكذا نحن فكم من المرات نعطي أرخص الأشياء كل إهتمامنا وأفضل ما لدينا من وقت وصحة وفكر، بينما أهم الأشياء لا نعطيها إلا فتات الوقت والجهد والمال.
هذا وقد قام أحد العلماء بعمل دراسة ميدانية على عينة عشوائية من الناس فوجد أن 50٪ ممن يقومون به يمكن الإستغناء عنه، وخرج من دراسته بتوصية يقول فيها: ” إجلس في صباح كل يوم وأكتب جدول أعمالك وما تريد أن تنجزه، وضع هدفك أمامك، ثم إحذف من جدول أعمالك كل ما يمكن الإستغناء عنه، وإستبدله بأشياء أهم يمكن أن تساعدك في تحقيق الهدف، وعندما تبدأ في عمل لا تتركه وتبدأ في عمل جديد إلا بعد الإنتهاء منه”. وإجعل خطتك مرنة للتعديل لأية طوارئ تحدث، وعليك في بداية يومك أن تحدد ما يجب أن تفعله، وما يجب أن تفعله أولاً، وما يمكن أن تستبعده
إذا عدنا إلى كلمة الله نجد في (1كو14: 33) مكتوب:” لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ، “. فعلينا أن ننظم أولويات حياتنا، وفي يقيني أن ترتيبها الصحيح يكون كالآتي :
أ. الله أولاً:
يجب أن يكون الله مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ) . كو1: 18). و لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُنا دائماً ومستمراً فِي كُلِّ شَيْءٍ.” علينا أن نكون فيه كما أوصى الرسول بولس تلميذه تيموثاوس قائلاً” اهْتَمَّ بِهذَا. كُنْ فِيهِ، لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ”(1تيمو4: 15).
فالعلاقة الشخصية مع الله في خلوتنا، والتدرب على سماع صوته من خلال القراءة الشخصية التعبدية للكلمة، والحياة المقدسة التي تنمو بإستمرار، وممارسة حضور الله الدائم في كل شيء يجب أن تكون أولوية مطلقة في حياة الإنسان الناجح.
والرب يسوع يعطينا المثل والقدوة في هذا الإتجاه، إذ نراه يوجه إهتمامه الأول إلى الشركة مع الآب في الصباح الباكر من اليوم، وبعد ذلك يخرج إلى مسئولياته المختلفة كما هو مكتوب في (مر1: 35). “وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ”.
ما أجمل ما سجله الوحي المقدس عن اسحق عندما ذهب إلى بئر سبع فيقول:”فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ. وَنَصَبَ هُنَاكَ خَيْمَتَهُ، وَحَفَرَ هُنَاكَ عَبِيدُ إِسْحَاقَ بِئْرًا”.(تك26: 25) لقد إستطاع اسحق أن يرتب أولوياته ترتيباً صحيحاًً ، فلقد أعطى إكرام الرب الأولوية في إهتماماته لذلك قام أولاً ببناء [المذبح]، ثم تأتي الأسرة في المرتبة الثانية مكتوب [نصب الخيمة]، ثم العمل جاء بعد ذلك [حفر بئراً] وكان هذا الترتيب سبباً من أسباب نجاحه وسلامه.
ب. الأسرة :
لابد أن الأسرة تأخذ الإهتمام اللائق والواجب وسط مسئوليات الحياة الضخمة، ولا يجب أن نقوم بالمسئوليات المختلفة على حساب مسئولية الأسرة.
نعم! إن العلاقة الحية النامية مع الله لابد أن تثمر علاقة رائعة ونامية ومتجددة وسعيدة مع الأسرة، ولا شك أن البيت المترابط الموحد بمثابة الجبهة الداخلية القوية التي تدفع الإنسان إلى النجاح في عمله.
فالإنسان الذي يتمتع في بيته بالجو الدافئ، والحب الصادق، والمشاركة المخلصة، والتشجيع الباني، والصلاة الدائمة، منه يستمد إستقراره وصموده وكفاحه وطاقته المتجددة لمزيد من العطاء والنجاح والنمو.
ياه ! كم يعجبني جداً شخصية يشوع القائد العظيم ، فبالرغم من مسئولياته والتزاماته لكنه لم ينس وسط زحمة وغمرة مشغوليات الحياة بيته ، فسطر الوحي عنه المقولة الذهبية التي تتخذها العائلات السعيدة الناجحة عبر الزمان شعاراً لها عندما قال:”أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ”(يش24: 15).
ج. العمل:
عندما يأخذ الله المكانة اللائقة به كسيد ورب الحياة، وعندما تأخذ الأسرة موقعها الحقيقي يأتي العمل في مكانه الصحيح، وينطلق الإنسان بإرادة قوية وعزيمة فولاذية، وتفاؤل وإقبال على عمله فينجح وينجح، ويرفع من مستوى معيشته وأسرته، ولعل أهم شيء في عمله هو أن يجعل عمله رسالة.
عاشراً : الطموح يدفع إلى النجاح
الطموح طاقة مقدسة وضعها الله في الإنسان لأنه مخلوق على صورة الله ولأن الله غير محدود، ولذلك نرى الإنسان كلما حقق شيئاً اشتاق لما هو أكثر وأفضل، لقد وضع الله الطموح في الإنسان حتى تستمر عملية الحياة في تقدم مستمر، ولكي ينجح الإنسان لابد أن يمتلئ بالطموح أولاً.
وتصور لنا ريشة الوحي المقدس يوسف وتلقبه [صاحب الأحلام] (تك37: 19). لقد كانت أحلامه كبيرة وترسبت في أعماقه فدفعته للكفاح، وساعدته في الإنتصار على الصعاب التي مر بها، وإستطاع بمعونة الله أن يحقق أحلامه .
والطموح لا يتوقف عند سن معين فلقد قال كالب بن يفنه في (يش14: 11) ” وَالآنَ فَهَا أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. فَلَمْ أَزَلِ الْيَوْمَ مُتَشَدِّدًا كَمَا فِي يَوْمَ أَرْسَلَنِي مُوسَى. كَمَا كَانَتْ قُوَّتِي حِينَئِذٍ، هكَذَا قُوَّتِي الآنَ لِلْحَرْبِ وَلِلْخُرُوجِ وَلِلدُّخُولِ.” إنه إنسان الشباب الدائم فلقد كان ممتلئاً من الحيوية والنشاط والطموح فنراه يطلب من يشوع بعد ذلك قائلاً: فَالآنَ أَعْطِنِي هذَا الْجَبَلَ، وكان هذا الجبل هو جبل حبرون حيث يسكنه بني عناق والعمالقة وكانت مدنهم حصينة ورغم ذلك دخل وإنتصر وصارت حبرون ملكاً له.
كان أليشع يخدم مع إيليا ولكنه كان طموحاً وعندما سأله إيليا “مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ قَبْلَ أَنْ أُوخَذَ مِنْكَ؟». فَقَالَ أَلِيشَعُ: «لِيَكُنْ نَصِيبُ اثْنَيْنِ مِنْ رُوحِكَ عَلَيَّ”.(2مل2: 9).
وداود عندما سمع عن المكافأة التي سيقدمها الملك شاول لمَنْ يقتل جليات ذهب وسأل أحد الرجال عن “مَاذَا يُفْعَلُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْتُلُ ذلِكَ الْفِلِسْطِينِيَّ،” (1صم17: 26). فأجابه الشعب بأنه سيغنيه ويزوجه إبنته ويجعل بيته حراً، والغريب أن داود ذهب إلى جماعة أخرى وسألهم مرة ثانية ليتأكد (1صم17: 30) فأجابوه بنفس
الجواب، ولما تأكد دفعه طموحه ليذهب لمحاربته لينال المكافأة العظيمة.
الطموح ليس عيباً أو شراً، لقد كانت طلبة يعبيص في (1أخ4: 10)” لَيْتَكَ تُبَارِكُنِي، وَتُوَسِّعُ تُخُومِي، وَتَكُونُ يَدُكَ مَعِي، وَتَحْفَظُنِي مِنَ الشَّرِّ حَتَّى لاَ يُتْعِبُنِي». فَآتَاهُ اللهُ بِمَا سَأَلَ”. [تُوَسِّعُ تُخُومِي] التخوم يعني الحدود، فقد كان يطمح أن تتسع بقعة الأرض التي يمتلكها بجانب الطلبات الروحية التي طلبها وإستجاب الله له.
الإنسان الطموح متفائل دائماً يستطيع أن يرى الورود وسط الأشواك، ينظر إلي النصف الممتلئ من الكوب ويشكر الله لأجله بدلاً من أن ينظر إلى النصف الفارغ ويلعن الظروف. والإنسان الطموح إنسان مغامر، من أسف هناك البعض لا يقبل المغامرة وكأنها مقامرة، ولا يملك سوى أن يردد الأمثال الشعبية القديمة المحبطة مثل [عصفور في اليد ولا مائة على الشجرة] أو [والباب إللى يجيلك منه الريح سده وإستريح]أو[مَنْ فات قديمه تاه].
إن الشخص الطموح لابد أن يغامر، فالإيمان في جوهره مغامرة. كيف لا ؟! ألم يخرج إبراهيم من أرضه ومن وسط عشيرته ليذهب إلى أرض لم يعرفها من قبل.(عب11: 8)” بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي. “
ويسطر لنا الكتاب عندما كان الشعب الإسرائيلي في طريقه إلى الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً ووصل إلى الأردن وكان ممتلئاً إلى جميع شطوطه وكان لابد من عبوره فأراد الله أن يدرب شعبه على المغامرة فقال لهم :” وَيَكُونُ حِينَمَا تَسْتَقِرُّ بُطُونُ أَقْدَامِ الْكَهَنَةِ حَامِلِي تَابُوتِ الرَّبِّ سَيِّدِ الأَرْضِ كُلِّهَا فِي مِيَاهِ الأُرْدُنِّ، أَنَّ مِيَاهَ الأُرْدُنِّ،المِيْاهَ الْمُنْحَدِرَةَ مِنْ فَوْقُ، تَنْفَلِقُ وَتَقِفُ نَدًّا وَاحِدًا”(يش3: 13) كان لابد أن تنزل أرجلهم إلى الماء بل وتستقر في المياه حتى تقف المياه نداً واحداً وقد حدث.
والإنسان الطموح لابد أن يحذر من مخاطر الطموح الخاطئ مثل :
أ. الطموح على حساب القيم والمبادئ، فماذا ينتفع الإنسان لو حقق كل طموحاته وخسر مبادئه وإنسانيته وأبديته.
فلا يجب أن يطمح الإنسان مثلاً أن يكون غنياً بالسرقة أو الإختلاس والرشوة والتزوير على حساب قيم الأمانة والصدق والقناعة، أو يطمح للوصول إلي مركز ومكانة مرموقة في عمله بالنفاق والخداع والمحاباة والظلم على حساب مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة والإنتاج في العمل.
ب. ولابد أن يحذر الإنسان من الطموح الذي يبعده عن حياته الروحية وخدمته وكنيسته كما حدث مع ديماس الذي جرفه تيار العالم بسبب طموحه الخاطئ فسطر الرسول بولس يقول :” لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ “.(2تي4: 10).
ج. لابد أن يدرك الإنسان الفرق بين الطموح والطمع .
الطموح يدفع الإنسان إلى المنافسة الشريفة بروح رياضية وموضوعية، لكن الطمع يجعل الإنسان يفكر في الإطاحة بمَنْ ينافسه فالطمع لا يقبل مَنْ ينافسه .
الطموح يجعل الإنسان يتطلع إلى النجاح بطرق مشروعة، أما الطمع فلا يهمه سوى تحقيق مآربه حتى ولو على حساب المبادئ والقيم. الطموح يحقق إرادة الله ويمجد اسمه فلقد خلقنا الله على صورته وكانت أول وصية أعطاها للإنسان “أَثْمِرُوا” (تك1: 28) وتأتي في ترجمات أخرى بمعنى ” أنمو” و”تطوروا” فلولا الطموح الإنساني ما وصلنا لكل التقدم التكنولوﭼي الهائل الذي وصلت إليه البشرية.
أما الطمع فيجعل الإنسان يتمحور حول ذاته ولذاته بأنانية بغيضة مثل الغني الغبي الذي قال:”أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَّلاَتِيوَخَيْرَاتِي،
وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِيوَاشْرَبِي وَافْرَحِي!”(لو12: 18، 19).
الطموح إيجابي يستفيد منه صاحبه ويفيد مَنْ حوله ، أما الطمع فهو سلبي فالطماع لا يهمه سوى نفسه، أناني شعاره “أنا وبعدي الطوفان”.
لمتابعة أسرار التميز السابقة:
سر النجاح والتميز 3