لا شك أننا جمعيا نتذكر الديكتاتور الليبى الراحل معمر القذافى، عندما رد بانفعال على الجموع التى تجرأت لأول مرة، وخرجت عليه وعلى كل ألقابه التى صنعها لنفسه، فعلا صوته بالسؤال: من أنتم؟ إنه السؤال الذى أثار الكثير من ردود الأفعال الضاحكة، ولم يسعفنا الوقت كى نعرف إذا ماكان يقصد يسؤاله هذا تحقير من خرجوا عليه والتقليل من شأنهم، أما كان يعنى الاندهاش من جرأة الثائرين والخارجين عليه؟، أو أنه كان يضمر المعنى المباشر للسؤال: أى من أنتم بالفعل؟ ووفقا للهجة القذافى الانفعالية، فإن هذا المعنى الآخير ربما لم يكن هو المقصود. فكما لم يسعفنا الوقت لنعرف مغزى السؤال، فهو أيضا لم يسعفه الوقت، ربما، ليجد الإجابة، فمن المؤكد أنه قُتل ولم يعرف من قتله، هل هم الثوار، أم أطراف إقليمية أم حلف الناتو والقوى الدولية؟!! وقد نكون قد تهكمنا من سؤال القذافى آنذاك، ولكن المؤكد أن القذاقى عندما رحل لم يأخذ سؤاله معه، بل تركه معلقا فى فراغ الربيع العربى، ليس كمزحة نتداوله، ولكن كحيرة وشك وعدم يقين إزاء واقع يتسم بعدم الشفافية. “من أنتم؟” سؤال لم يكف عن طرح ذاته على الساحة، فحملته الألسنة وأضمرته النفوس فى الكثير الأحداث والمناسبات.
وليس صعبا أن نعدد أمثلة ومناسبات طرح سؤال: “من أنتم؟” أتصور أننا لم ننسى بعد ما سُمى بـ”الطرف الثالث”. فمن منا من لم يسأل من هؤلاء؟ وما هى هويتهم؟ ومن يحركهم؟ صحيح أن “الطرف الثالث” توارى عن الأنظار ولكن بدون إجابة واضحة تفسر لنا من هو هذا الطرف. إنهم كالأشباح يتوارون فى ظلمة السياسية، ونحن نعلم أنهم لم يرحلوا، بل هم موجودون فى مكان ما فى العتمة. ولم يقتصر الأمر على الطرف الثالث، بل إن جماعات عدة صارت هدفا لسؤال من أنتم؟ فكل من فاجئنا بحضوره الغير متوقع كان يدفعنا للسؤال من أنتم؟ بداية من جماعات الألتراس، لبعض القوى السياسية التى ظهرت على الساحة بصورة مفاجئة، أو الكثير من ممثلى فئة الخبراء والنشطاء والمتحدثين بأسماء كيانات وجماعات ربما لم تكون موجودة؟ ويمكن ايضا أن نضيف إلى ذلك سيل الجوائز التى كانت تمنح لأشخاص لا نعرفهم كثيرا، بما فى ذلك جائزة نوبل. ومن ناحية أخرى كان سؤال من أنتم؟ يأتى فى صيغة إندهاش واستهجان، فمع تغير المواقف والتحولات اختلت الرؤية، فالقاتل ارتدى عباءة مدنية وارتدى قناع الحمل الوديع، والفاسد أصبح ثوريا وإعلاميا بإمتياز، ومن أقنعنا طوال حياته فى العالم أنه ضد السلطة تحول فجأة إلى عاشق لها. ويتعاظم سؤال (من أنتم؟) ليصل إلى ذروته مع تنظيم “داعش”، لنصبح أما الصورة الفاضحة والفجة لهذا السؤال.
وأكثر من ذلك فقد خرج سؤال (من أنتم؟) عن نطاق السيطرة، وفرض تفسه بشكل صريح أو ضمنى علينا كأشخاص. فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى، أصبحنا عرضة لدفقات كبيرة من الأخبار والقصص والصداقات، لدرجة أننا لا نكف عن ملاحقة ما يجرى أمامنا بأسئلة من قبيل: ما هذا؟ ومن هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ سلسلة طويلة من التساؤلات اليومية التى تمر بلا اجابات، ليس فقط بسبب عدم وجود إجابات، بل لأننا لم نعد نثق فى أية إجابات. وفى ظل الاستقطابات التى باتت سمة المرحلة يندفع الأشخاص، بما فى ذلك من هم أصدقاء، فى اتجاهات متعارضة متدافعين فى حركة متوترة وهستيرية تصل إلى التشاحن والتنابذ بألفاظ عنيفة وربما بذيئة، وفى مواجهة هذا المشهد المتكرر يتفجر سؤال “من أنتم؟” بكل دلالاته: التحقير والإندهاش والرغبة فى معرفة فعلية. وفى عتمة السياسية، ومع انتشار وباء عدم اليقين، فإننا قد لا نتوقف عن طرح السؤال “من أنتم؟”، هذا السؤال الذى انتشر لدرجة تجعلنا لا ندرك أن هناك سؤال آخر يفرض ذاته وهو “من نحن؟”.