هناك علاقة تواصل وتضاد بين الكلام والفعل، فالكلام بالمعنى العام ليس فعلا، ولكن فى بعض الحالات يكون الكلام هو الفعل المطلوب. فنحن نقول “أفعال لا أقوال” وفى هذه الحالة تبدو العلاقة بين الفعل والكلام علاقة تناقض تام، فالكلام يعنى “اللاشئ” أو “الوعود الكاذبة” أو “الرطانة الفارغة” أما الفعل فهو كل شئ ويستحسن أن يكون متحررا بشكل كامل من الكلام وكأنه يتم قى صمت تام. وفى حالات أخرى قد يكون الكلام هو الفعل بعينه، فالكلمة هى أصل كل شئ “فى البدء كان الكلمة”، وعندما نمتدح الصمت، فليس هذا بسبب أن الكلام بلا أثر، بل على العكس لأنه عظيم الأثر، فقد تقال كلمة فتضر آخرين، أو قد تورث صاحبها الندم. وإذا كانت حياتنا كلها عبارة عن فعل تواصل واتصال، فإن هذا النمط من الفعل واسع الانتشار لا يتم فى الغالب إلا عبر الكلام والإيماءات والتلميحات، كما أننا نتحدث عن العنف اللفظى بوصفه فعلا ويرى البعض أنه قد يكون، فى بعض الأحيان، أعظم أثرا من العنف الجسدى، تماما مثلما لا يمكن تخيل علاقات الحب بدون التواصل اللغوى سواء فى صورة كلمات لطيفة أو عتاب أو تعبيرات عن الغيرة أو غيره. وبهذا المعنى فإن العلاقة بين الكلام والفعل هى علاقة متعددة الأوجه، فهى الإلتزام بالكلمة كما أنها تعنى الوعود الكاذبة، وهى تعنى التواصل واللاتواصل، وفى النتيحة فإن كثير من أفعالنا هى ليست إلا كلاما، وكثيرا كم كلامنا ليس سوى أفعالا.
وارتبط التاريخ الإنسانى بوجود فئات من الناس مهمتها الكلام وليس الفعل المادى المباشر، سواء كانوا كهنة او سحرة، أو شعراء أو مفكرين، وعلى الرغم من أنهم الأقل من حيث الفعل المادى، إلا أنهم كانوا ومازالوا فئات مؤثرة فى حياة البشر فيما يسمى بتشكيل الوعى. وتحولت هذا الفئات فى العصر الحديث من مجرد أشخاص أو جماعات إلى مؤسسات تحتكر صناعة الكلام حيث يجرى انتاج الكلام ونشره وتوزيعه، فنحن نستهلك قدرا هائلا من الكلام المنتوج عبر مؤسسات متخصصة.
وتنتج صناعة الكلام أنواعا متعددة من السلع الكلامية لأغراض إقتصادية وسياسية واجتماعية ودينية. فنحن نعيش فى زمن يعطى أهمية للكلام المكتوب على أغلفة السلع أكثر من السلع نفسها، وأصبح الإعلام آلة كلام ضخمة تنتج من الكلام ما يفيض عن الحاجة ويشوش الواقع المادى، كما أصبح الخطاب الدينى متخما بالكلام بما يزيد عن حاجة المؤمن لعبادة خالقه فهو يقدم للبشر الكثير من الكلام لكى يكرهوا بعضهم أو حتى يكرهوا أنفسهم. وحتى الكلام فى التنمية وحقوق الإنسان لا يخرج عن هذه القاعدة، فرغم نبل المقاصد إلا أن المؤسسات الدولية نجحت نجاحا باهرا فى تصنيع منتجاتها الكلامية، ولكن المشكلة أنه بعد هذا الإنجاز اللغوى يجرى اكتشاف الفجوة بين القدرة على الكلام والقدرة على تحقيق ما يقال على أرض الواقع. ولأن الكلام تحول إلى حالة مؤسساتية ووظيفية، فإن منتجى ومروجى الكلام باتوا جماعات مصالح من مهامهم ذات الأولوية الحفاظ على صناعة الكلام وتحقيق المزيد من انتاجه وتوزيعه واستهلاكه، وأولا وقبل كل شئ تشكيل وعى المستهلك، من أجل زيادة الطلب على الكلام وخاصة إذا كان مبتذلا وبلا معنى.
وباختصار، فإن صناعة الكلام فى هذا الزمن هى مثل كثير من الصناعات ولكنها اوسع انتشارا، فهى لا تتعلق فقط بالسياسة أو الثقافة، بل إنها أساس الكثير من الصناعات الأخرى من خلال الدعاية والإعلان. والنتيجة أننا محاصرون بالكلام لدرجة قد تنسينا الواقع ذاته، ولدينا منه ما يفيض فعليا عن حاجتنا إليه. إنها صناعة مربحة بلاشك، ولا يوجد دليل على أنها ستعانى من الكساد قريبا.. للأسف.