حلف الرئيس السيسي اليمين الدستورية أمام كامل هيئة المحكمة الدستورية العليا وأصبح رسميا رئيس الدولة المصرية.وبذلك تبدأ فترة ولايته التي يتطلع إليها الشعب المصري بثقة وأمل أن تشهد تحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية,تلك الأهداف التي ضلت الطريق طوال السنوات التي فصلت بين يناير2011 ويونية2013 والآن يتجدد الأمل في استعادتها.
عملية انتخاب رئيس الجمهورية الشهر الماضي تمت بسلام وبشكل حضاري تابعها العالم باهتمام كبير وماتزال أصداؤها تتردد في الإعلام وفي تقارير منظمات المراقبة المحلية والدولية,وبالرغم من تباين النوايا وتفاوت المقاصد الواضح بين هذه التقارير إلا أنها كلها تخلص إلي الاعتراف بأن العملية برمتها تمت بشفافية ونزاهة وعبرت نتيجتها عن إرادة الغالبية الكاسحة من المصريين دون ترغيب أو ترهيب…والحقيقة أن ذلك هو الفارق الأساسي بين محمد مرسي رئيس أتي بالصندوق ليرث أمة منقسمة في حالة صراع وفشل في توحيدها بل إنه أمعن في تقسيمها أكثر مما تسلمها,وبين السيسي رئيس أتي بالصندوق ليرث أمه متحدة مستعدة للاحتشاد خلف قيادته والتعاون معه لإنقاذ هذا الوطن.
غير أن هناك بعض الخواطر التي تلح علي والتي أود تسجيلها هنا حول تجربة الانتخابات الرئاسية والتي أعتبرها خطوة مهمة علي طريق النضج الديمقراطي لهذا الشعب:
**كان خروج المصريين إلي صناديق الانتخاب عظيما ومؤثرا لأن اصطفافهم في الطوابير في ساعات الذروة أو حتي ترددهم علي اللجان في ساعات الهدوء عكس اهتماما كبيرا بهذا الواجب الوطني,ولم تبد عليهم علامات العبوس أو التوجس أو الخوف من التهديدات التي أنهالت عليهم من أبواق الإرهاب,بل سيطرت عليهم مشاعر الفرح والبهجة والتفاؤل ليحولوا المشهد إلي عرس انتخابي نقل للعالم صورة حضارية عن أصالة ووعي الشعب المصري.
**لايمكن لأي منصف أو وطني يتصدي لتوثيق المشهد الانتخابي إلا أن يقف مبهورا بدور المرأة المصرية-فتاة شابة أو سيدة في منتصف العمر أو عجوز متقدمة في السن-وأقول بكل الإعجاب والتقدير إن ما فعلته المرأة المصرية في الانتخابات ليس إلا تتويجا لدورها الوطني الراسخ الرائع عبر سنوات الثورة الثلاث والذي هو امتداد لدورها في مصر الحديثة منذ بدايات القرن العشرين…الأكثر روعة من ذلك أن ما فعلته المرأة المصرية تجاوز المشاركة الفعالة الإيجابية ليوجه صفعة قوية لكل قوي الرجعية والتخلف التي كانت تتآمر لتحويل مصر إلي طالبان ولإدخال المرأة المصرية كهوف التخلف والعبودية…لكن هيهات…وشكرا للمرأة المصرية عنادها وجهادها وتأكيدها أنها شريك حقيقي مساو للرجل في هذا الوطن…وتلك رسالة أرجو أن يعيها الرجل المصري جيدا وأن تنعكس علي المرحلة الراهنة والعمل المستقبلي في بلادنا.
**قضية موقف بعض الشباب-ولا أقول كل الشباب أبدا- من الانتخابات تعرضت لها تفصيلا الأسبوع الماضي لذلك لن أسرف في التكرار,لكن الخلاصة أن مصر لايمكن أن تنفصل عن شبابها ولا يمكن أن تخرج من انتخابات الرئاسة لتصفي معهم الحسابات أو تعاقبهم علي رأيهم أو موقفهم,بل تقتضي الحكمة احتواءهم والحوار معهم والمزيد من إدماجهم في العمل الوطني والممارسة السياسية مع إشراكهم بجدية في العمل التنموي وتمكينهم من صعود درجات سلم الإدارة والقيادة…هكذا يتحقق نضج الشباب وهكذا يتم إعداده وتأهيله ليتسلم هذا البلد دون خوف أو ارتباك.
**قضيةالمقاطعون والمبطلون أي من قاطعوا الانتخابات ولم يذهبوا للإدلاء بأصواتهم علي جانب في مقابل من ذهبوا إلي الصناديق لكنهم تعمدوا إفساد بطاقة الإدلاء بالرأي بشكل أو بآخر فأبطلوا أصواتهم…هذه القضية شاع تناولها إعلاميا وسياسيا بإدانة المقاطعين وتبرئة المبطلين وذلك أمر أختلف بشأنه ويلزم التوقف لمناقشته بهدوء…أتصور أن التكالب علي حشد المواطنين للذهاب إلي صندوق الانتخاب والاهتمام بحصد نسبة مشاركة مرتفعة هو الذي أدي إلي تبرير وقبول مسلك إفساد الصوت وإبطاله,وهو نفسه السبب وراء إدانة المقاطعين ووصفهم بأنهم منشقون عن العمل الوطني متنكرون لواجبهم الانتخابي…بينما أري عكس ذلك وأتمني تصحيح تلك المفاهيم,فالامتناع عن المشاركة وعدم الإدلاء بالرأي هو موقف في حد ذاته وقد يكون إيجابيا أيضا لأنه قد يعكس عدم اقتناع بأي من الخيارات المتاحة للتصويت-وهو أشبه بمبدأالممتنع عن التصويت المعترف به والمقبول في سائر المجالس الدولية والبرلمانات حيث يكون التصويت إماموافق أوغير موافق أوممتنع…لكن تصنع المشاركة الإيجابية أمام الكافة ثم إفساد الصوت وإتلاف بطاقة الاقتراع لا أجد فيه موقفا سياسيا ولا وطنيا وينبغي ألا نشيد به بحال من الأحوال.والأعجب أمام هذه المفارقة أن النقاش يجري حارا حول ضرورة عقاب من يتخلف عن الإدلاء بالرأي في الانتخابات وتوقيع غرامة مالية عليه بينما لا نري غضاضة ولا نشعر بأي خجل إزاء من يتلف صوته!!
**حمدين صباحي المرشح المنافس في سباق انتخابات الرئاسة…التزمت تماما بأقصي درجات الحياد في تناولي لدوره وحرصت علي إعطائه ما يستحقه من التقدير والاحترام…وكنت أتابع عن كثب كيفية إدارته لحملته الانتخابية وكثيرا ما أصابني الإحباط إزاء توجهاته ونزوعه للعنف اللفظي وتخليه عن الكياسة لكني آثرت وقتها ضبط النفس لئلا أخرج عن الحياد الشخصي والمهني…أما الآن وقد انتهي السباق فأري ضرورة تسليط الضوء علي ما لا أتفق معه عليه:لا أتفق معه علي التعجل والاندفاع في الهجوم السياسي علي منافسه السيسي تارة بربطه بالمجلس العسكري وتارة بربطه بالرئيس المعزول محمد مرسي وتارة ثالثة بالإيحاء بأن وجوده علي رأس الجيش لايحسب كقيمة مضافة للشعب وثورته بل كقيمة مخصومة من ذلك…ولا أتفق معه أيضا علي مضمون كلمته وسط أنصاره بعد إعلان نتيجة الانتخابات وخسارته للسباق الرئاسي فبينما بدأها بطريقة طيبة تستحق الاحترام سرعان ما انزلق لتوزيع الإدانات علي نزاهة الانتخابات والتشكيك في حيدة اللجنة العليا للانتخابات والتحريض علي ضرورة بقائه في الخريطة السياسية لمقاومة الفساد والاستبداد الذي يتعرض له الشعب المصري…تأسفت جدا وأنا أتابع ذلك لأني كنت أتمني خروج حمدين صباحي من السباق بشرف حسبه له الجميع في إصراره علي المشاركة واحتمال سعيه لتكوين جبهة معارضة قوية في البرلمان,لكنه لم يستطع أن يكبح جماح مشاعر المرارة إزاء الخسارة!!
**أنهي خواطري هذه بأكثرها فخرا وشرفا لمصر وشعبها في مشهد لم يسبق أن عايشه أبدا المصريون:مشهد الرئيس السابق عدلي منصور-الذي كان ربانا حكيما أمينا قاد سفينة الوطن إلي بر الأمان- وهو يسلم السلطة إلي خلفه الرئيس عبد الفتاح السيسي…هذا مشهد لم يتصور جيلي من المصريين أنهم سيعيشون ليعايشوه,فما عهدناه منذ أدركنا ماهي السياسة أن الرئيس يتقلد السلطة خلفا لرئيس مات أو رئيس اغتيل أو رئيس فقد سلطته نتيجة انقلاب عسكري أو رئيس تنحي عن السلطة أمام ثورة شعبه أو رئيس تم عزله عن السلطة بعد أن أساء لشعبه…لكن أبدا لم نعايش مشهد رئيس سابق يسلم سلطاته لرئيس لاحق بكامل إرادته ووقاره واحترامه…ولعل هذا المشهد العظيم يكون اللبنة الأولي التي تسطر آلية الانتقال الدوري السلمي للسلطة في مصر من الآن فصاعدا.