أينما حل الظلم, فنحن الكتاب مسئولون عنه, وعلي الكاتب أن يسمي الشئ أولا, لأن اللغة توحي لنا بالفكرة, وتسمية الشئ توجد هذا الشئ وتجعله حقيقة, فمثلا اضطهاد السود في أمريكا, ليس شيئا مادام ليس هناك كتاب يقولون إنهم
أينما حل الظلم, فنحن الكتاب مسئولون عنه, وعلي الكاتب أن يسمي الشئ أولا, لأن اللغة توحي لنا بالفكرة, وتسمية الشئ توجد هذا الشئ وتجعله حقيقة, فمثلا اضطهاد السود في أمريكا, ليس شيئا مادام ليس هناك كتاب يقولون إنهم مضطهدون, وقبل أن يكتب أحد عن اضطهاد العبيد, ما كان أحد ليفكر في أنهم مضطهدون, بل العبيد أنفسهم لم يكونوا يفكرون في ذلك!.
هكذا تكلم بصدق الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كان يسير علي النهج الذي سار عليه كتاب فرنسا في عصور مختلفة, حيث مازالت أصوات فولتير, وجان جاك روسو, وأناطول فرانسي, وإميل زولا, تتردد علي مدي أزمنة متعددة. هذه الأصوات التي نادت جميعا: لتحتيا الحرية, وكانت جورج صاند الأديبة الفرنسية أيضا تقول صناعتي هي الحرية.
والقارئ لما قاله سارتر وهؤلاء وغيرهم, يدرك العلاقة بين الثقافة والثورة وكيف تتولد كل منهما عن الأخري.. إنها الثورة علي الظلم.. الاضطهاد.. القهر.. قيود العبودية.. فالثقافة تمثل الوسيلة والأداة لصناعة الحرية.. ذلك أن الثقافة لا تعني مجرد معلومات يقوم العقل بتخزينها واستدعائها في حينها, فهذا المعني أصبح لا وجود له في ظل متغيرات العصر التي تمر بها الشعوب, بل إن الثقافة أصبحت تعني -كما يذكر الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام 1938- كل مكونات الإنسان, فتشمل سلوكيات حياته اليومية من مأكل وملبس وأسلوب التحدث والكلام, وتمتد لتتسع نحو آفاق العقل والتفكير.. إنها تشمل كل ألوان المعرفة: الفلسفة, التاريخ, العلوم, وغيرها العديد من ألوان المعرفة, وعندما قامت ثورة 25يناير نجد أنها ليست ثورة علي الحياة السياسية بل تمتد لتشمل كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الأساس..
وإذا كانت الثقافة تمثل القوي الناعمة لنهضة مصر وتقدمها.. فإن هذه الأفكار والتقاليد التي تبناها هؤلاء المثقفون الفرنسيون هي التي خلقت مناخ الحرية وجعلته لبنة أساسية في الضمير الجمعي لدي الشعب الفرنسي, مما أفرز في النهاية نماذج من الساسة (حتي لو كانوا رجعيين) يفكرون ألف مرة قبل أن يجرؤوا علي سن قانون جديد يناقض الحرية أو يقيدها..
إن جميع الشعوب التي تريد لنفسها حاضرا ومستقبلا متمدينا تحتاج إلي كتاب أمناء لهم من الضمير الحي والغيرة علي الوطن.. نعم أقولها بصدق ومصر تمر بمرحلة تاريخية فارقة: ما أحوجنا إلي مثل هذه الأفكار ومثل هذه الأقلام.