في الرابع والعشرين من يناير قبل عام وقفت أمام ##نقابة المحامين## في وسط القاهرة وشاهدت بضعة آلاف من المحتجين يتدفقون فجأة إلي المنطقة من ناحية الشمال فأربكوا شرطة الشغب المصرية المعروفة بعنفها واندفعوا باتجاه ##ميدان التحرير##. وهذه المسيرة التي كانت بطول ميل والتي بلغت ذروتها باقتحام المحتجين سلسلة بشرية من الضباط واستيلائهم علي ##الميدان## كانت هي الشيء الأكثر إلهاما الذي شهدته علي الإطلاق, وما يزال كذلك. وقد احتشد المصريون البسطاء بشجاعة – وهم أولئك الذين لطالما افترض أنهم سلبيون من الناحية السياسية, وكان لهم مطلب واحد بسيط: إنهاء الديكتاتورية التي استمرت عقودا. وعندما تنحي حسني مبارك بعد ثمانية عشر يوما من الاضطراب أزهر ##الربيع العربي##.
أو هكذا شئنا أن نؤمن بذلك. غير أن واقع الأشهر الإثني عشر الماضية قد سحق حتي أعلي الآمال التي ربما كان المرء قد عقد إيمانه لإنتعاشها. وتتوجه الآن مصر نحو حكم ديني متطرف وليس ديموقراطيا ليبراليا. وقد فشلت إدارة أوباما المرتبكة في فعل أي شيء لوقف الكارثة المقبلة.
ومن المغري الاعتقاد بأن الأمور ربما كانت ستتحول إلي محصلة مختلفة لو كانت واشنطن قد عملت بجد أكبر لتعزيز الثوار الشبان الذين طبقوا ظاهريا قيم أمريكا الليبرالية عندما خرجوا إلي الشوارع في يناير الماضي. وقد كسب هؤلاء النشطاء الشجعان في النهاية قلوب الأمريكيين وآراءهم الإيجابية نحوهم والتي وصلت إلي 82بالمائة في ذروة الثورة كما أن وجوههم المتألقة كانت تحمل الوعد بمصر أكثر ديموقراطية وودا.
لكن النشطاء لم يكونوا قط ما تمنينا أن يكونوه. وبعيدا عن أن يكونوا ليبراليين, كانت طبقاتهم تتكون في غالبها من الناصريين والاشتراكيين الثوريين وشباب ##الإخوان المسلمين## وهو تحالف المصلحة لمعارضة مبارك ثم شجب أمريكا فيما بعد.
وهكذا فعندما زارت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون مصر في مارس 2011 رفضت مجموعة من كبار النشطاء اللقاء معها. وتبين أيضا أنهم متعصبون لنظرية المؤامرة, ذلك أنه عندما سرت شائعات قاهرية عتيقة بأن احتفالا ##يهوديا ماسونيا## سوف يعقد في الأهرامات في 11 نوفمبر صرحت ##الجبهة الديموقراطية لحركة شباب 6 أبريل## أن هذا الحدث غير الموجود أصلا ينبغي حظره. وقالوا في بيان لهم ##نحن ملتزمون بإنجازات الثورة التي تؤكد علي الحرية لكن الحرية ليست مطلقة, بل مقيدة بقوانين ومعتقدات الشعب المصري الذي لا يقبل أن تتم رعاية مثل هذه الاحتفالات في أعقاب الثورة.##
ولم يعد الثوار هم الحصان الذي يمكن الرهان عليه بأية حال. بل إن اعتمادهم المستمر علي احتجاجات الشوارع بعد الإطاحة بمبارك قد أغضب قطاعا أوسع من الشعب المصري يريد بشدة العودة إلي حياته الطبيعية. وفي أواخر أكتوبر -قبل يوم واحد فقط من الموعد النهائي للتسجيل – شكلوا أخيرا تحالفا انتخابيا وهو ##تحالف الثورة مستمرة## وذلك للتنافس في الانتخابات البرلمانية لكن كان الوقت متأخرا جدا. وقد فاز هذا ##التحالف## بنسبة 2.35 بالمائة فقط من مقاعد البرلمان وسوف يلعب دورا ضئيلا في تشكيل المستقبل السياسي لمصر. وفي الوقت نفسه حصلت الأحزاب الإسلامية علي ما يقرب من 70 بالمائة من الأصوات من خلال الضرب علي وتر المشاعر الدينية لدي الشعب المصري واستغلال شبكات خدماتهم الاجتماعية الراسخة لحشد الأنصار.
ومع ذلك, علقت إدارة أوباما آمالها علي ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## الذي تولي زمام السلطة بعد تنحي مبارك بموافقة من واشنطن – وهو بالفعل كذلك علي نحو ما. وفي النهاية, يبدو أن علاقات الجيش التاريخية مع واشنطن والدعم الواسع الذي يتمتع به بين الشعب المصري سيجعله الشريك الأمثل لتوجيه مصر نحو مستقبل مستقر وديموقراطي.
لكن كانت هناك علامات مبكرة علي أن ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## كان شديد الاهتمام بالاستقرار أكثر من حرصه علي الديموقراطية. ففي الربيع الماضي وحيث تصاعد العنف الطائفي بشكل كبير تردد الجيش في التدخل في هذا النزاع المحلي خشية حدوث رد فعل سلبي. وقد منح أيضا منبرا للسلفيين الراديكاليين ونشر صورهم عبر الصفحات الأولي في الصحافة المملوكة للدولة مستضيفا إياهم علي برامج الأخبار التي تديرها الحكومة. ثم بعد ذلك بوقت قصير تشجع السلفيون بفضل هذا الاستقبال وبدأوا في التنظيم سياسيا وبعد ذلك بثمانية أشهر ظهروا ثاني أكبر قوة سياسية مهيمنة في مصر في أعقاب الانتخابات.
ثم عندما حفز الانتقال البطيء نحو الحكم المدني احتجاجات جديدة في ##ميدان التحرير## في الخريف شن الجيش قمعا غير مسبوق متخليا بذلك كليا عن أية مؤهلات ديموقراطية كان قد ادعاها لنفسه يوما ما. فما بين أكتوبر وديسمبر كان الجيش قد قتل علي الأقل 80 متظاهرا وجرح المئات ونشر مركبات عسكرية مدرعة وقناصة وقنابل الغاز المسيل للدموع ضد شعبه واستغل وسائل الإعلام التي تديرها الدولة لتحريض المدنيين علي حمل السلاح ضد المحتجين. وفي غضون ذلك, أخضع ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## ما لا يقل عن 12ألف مصري للمحاكمات العسكرية, وفي أواخر ديسمبر الماضي اقتحم مكاتب سبع عشرة منظمة غير حكومية موالية للديموقراطية, والتي تمول الولايات المتحدة الكثير منها.
وحيث قوض حكم العسكر شرعيته داخل مصر وخارجها علي حد سواء, أصبحت إدارة أوباما تنظر إلي ##الإخوان المسلمين## بشكل متزايد باعتبارهم شريكا محتملا. وهكذا فإن سياسة ##الاتصالات المحدودة## للإدارة الأمريكية مع ##الإخوان## والتي أعلنت عنها في يونيو قد توسعت إلي اجتماعات دبلوماسية مع ##الجماعة## في أكتوبر, كما أن نائب وزيرة الخارجية الأمريكية وليام بيرنز التقي في يناير مع الزعماء السياسيين لـ ##الإخوان##. وقد فازت ##الجماعة## حسبما هو متوقع بأغلبية 47 بالمائة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ولن يكون في صالح واشنطن أن تكون لها علاقات عدائية مع القادة المنتخبين شرعيا في مصر. ومع ذلك فإن هذه الحجة نصف صحيحة: فعلي الرغم من أنه ينبغي علي واشنطن أن تحافظ علي خطوط اتصال مفتوحة مع ##الإخوان## إلا أنه يجب ألا يكون لها أي أوهام حول استعداد ##الإخوان## للعمل كشريك فيما يخص المصالح الأمريكية الرئيسية.
وفي هذا السياق, قال قادة ##الإخوان## مرارا وتكرارا إنهم ينوون طرح معاهدة كامب ديفيد للاستفتاء, وهي الاستراتيجية التي تؤمن ##الجماعة## أنها سوف تمكنها من نقض اتفاقية معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل مع تفادي اللوم في الوقت نفسه. وعلاوة علي ذلك, دعا قادة ##الإخوان## إلي حظر لبس ملابس البحر في الشواطئ ومنع شرب الكحوليات رغم الواقع بأن هذه عناصر جوهرية في صناعة السياحة في البلاد والتي تشكل حوالي عشرة بالمائة من اقتصاد مصر الراكد. وتدعم ##الجماعة## أيضا تشريعا جديدا سوف يحد من التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية مما يقوض قدرة واشنطن علي مساعدة المنظمات الموالية للديموقراطية. وأخيرا وربما الأهم من كل ذلك هو أن ##الإخوان## ينوون تطبيق الشريعة باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع المصري وتجريم انتقاد الشريعة الإسلامية.
وفي الواقع, فإنه بعد عام واحد علي ثورة مصر الملحمية فإنه ليس لواشنطن أبطال في القاهرة وإنما فقط صداع. ولكن بدلا من مواجهة هذا الصداع اختارت إدارة أوباما دوما المسار الأقل مقاومة. وهكذا فإن الغارات علي المنظمات غير الحكومية التي تمولها الولايات المتحدة لم توقف المعونة العسكرية التي ترسلها واشنطن إلي القاهرة وتبلغ 1.3 مليار دولار. كما أن مواقف ##الإخوان## الزاعقة ضد المصالح الأمريكية الرئيسية قد استمرت دون رادع.
ووفقا للزعيم السياسي لـ ##الإخوان## عصام العريان فإنه عندما زار نائب وزير الخارجية الأمريكي مقرات ##الجماعة## في القاهرة في منتصف يناير لم يرد أصلا ذكر لاتفاقيات كامب ديفيد.
وربما تراهن الإدارة علي أن المفاوضات التي جرت مؤخرا بين ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## و##الإخوان## سوف تسفر عن اتفاق يرضي كلا الطرفين, ويعزز الهدوء الداخلي علي أقل تقدير. ولو حدث ذلك فسيكون مؤشرا كاشفا علي ما وصلت إليه الأمور, إذ إنه بعد عام علي الحماسة في ##ميدان التحرير## ينظر إلي التحالف بين الحكام العسكريين المستبدين ورجال الدين المتطرفين باعتباره مع الأسف كأفضل سيناريو.
ذي نيو ريببليك