ماذا يبقي للرأسمالية في عقر دارها؟!
يبقي لها مرونتها وتعاملها مع الواقع,يبقي لها فكر لا يتسكع في غياهب الماضي,يبقي لها رؤية مستقبلية تنتقل بها من الحداثة إلي ما بعد الحداثة,يبقي لها إصرارها علي رفض كل نسق فكري مغلق.
إن الرأسمالية -بعيدا عن الولايات المتحدة,تستطيع أن تقلم أظافرها كلما حادت عن الطريق,بما تملكه من آلية للنقد وملاءة للحرية.إن الرأسمالية حينما توحشت أسنانها- إبان الحرب العالمية الثانية,لم يتوان الرئيس الأمريكي روزفلت عن قضم أنيابها بفرض مظلة شاملة للتأمينات الاجتماعية والصحية لحماية المواطنين.
والرأسمالية الآن -حينما أرادت أن تلعب منفردة بعيدة عن الإنتاج والإنسان,تدخلت الدولة بتأميم جزئي لأعتي المؤسسات المالية بالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها…عملا بمقولة أرسطو ومن بعده الفارابي ##كل نظام يفسد -حال الإفراط في مبادئه##.
فالرأسمالية المقننة -تماما كالديموقراطية يحتوي كلاهما علي مخاطر في مسيرة التطبيق تتطلب المراجعة وتصحيح المسار. نعم! قد ترسب الرأسمالية في بعض المعايير الأخلاقية والإنسانية,ولكنها لا تجامل أحدا علي حساب النظام والقانون. فالرفاهية الاقتصادية هي مسعاها الأخير والإنسان هو منتهاها الأثير,والإنتاجية هي سبيلها الوفير.
فهلا نجحت الرأسمالية في إعمار الأرض وترفيه الإنسان!!
* إن نسبة ملاك المنازل في بريطانيا وحدها تتجاوز 70% وفي ألمانيا نحو 40% وفي فرنسا والولايات المتحدة وغيرها من معاقل الرأسمالية تتجاوز 50%.
* إن نسبة الملاك المشاركين في الأصول الإنتاجية لأسهم الشركات والمؤسسات تتجاوز ثلث المجتمع الأمريكي,ومثلها في سائر الدول الأوربية.
* إن متوسط الدخل الفردي لمعظم مواطني الدول الرأسمالية يتجاوز ثلاثين ألف دولار سنويا.
* إن التوزيع المنضبط للثروة القومية بين أبناء هذه البلدان لا يبتعد عن المستوي الأمثل.
إننا لا نستطيع أن نتعاطف مع بعض الحالمين بسقوط الرأسمالية وأفول بريقها. عليهم أن يعوا أنه نظام لا يعرف الجمود,لأنه يعيش علي تدفقات أحلامه -فما كل محلول العريكة خائب- إن تعثر حينا,ولا كل محبوك التريكة ظافر,ولكن ما عسي أن يتقول المغامرون علي نظام ناصح الجيب وافر.
إن مسلسل ما اصطلح علي تسميته بـانهيار المؤسسات المالية لن يتوقف في الأمد القريب.قد يكون هذا الانهيار حقيقيا -لأن مؤسساته لم تصمد أمام شعار الرأسمالية (البقاء للأصلح) وقد يكون مخططا- ضمن استراتيجية حكومية لتأميم جزئي ومرحلي تستعيد بها الدولة هيبتها وتسترد بها الرأسمالية مبادئها,كي تبشر من جديد برأسمالية مطعمة بنفحات اشتراكية…فما لا يقتلني يزيدني قوة -كما قال نيتشه.
إن سقوط بعض الأصوليات في الساحة العالمية,وتهاوي النموذج السوفيتي بين بروليتاريا كادحة,وبرجوازية مستغلة -لم تكن بسبب أزمة ركود عارضة,إنما بسبب التدني المتواصل للإنتاجية وسيطرة الدولة علي عناصر الإنتاج وتوظيف اليوتوبيا الفاضلة في تصحيح الانحرافات وحل التناقضات.
لقد اختارت روسيا الاتحادية بياتا شتويا تسترجع فيه قوتها,كي تعود إلي العالم بعد عدة سنوات بأقل من 4% من حجم الإنتاج العالمي.بينما اختارت الولايات المتحدة بإنتاجها الذي يربو علي 25% من الإنتاج العالمي -كرة الروليت,التي قد تتعثر حينا,ولكنها لا تتوقف أبدا عن الدوران.
وعلي المستوي الأمريكي,استطاع الاقتصاد في مرونته مع الأنماط التاريخية للإنتاج أن يتحول بيسر وانسيابية -قبل قرن من الزمان- من مجتمع زراعي قوامه ثلث القوي العاملة إلي 5% فقط عام 2007. وكما استطاع أن يقفز من الزراعة إلي الصناعة إلي التجارة الحرة- في حينها,استطاع أيضا أن يتبوأ رائدا مجالات الملكية الفكرية في شتي مناحيها والمنتجات الإلكترونية وآلات التصنيع المبرمجة وعلوم التحكم الآلي والتكنولوجيا الحيوية وأبحاث الأعصاب والدراسات العليا وأدوات الترفية وأساليب التسويق والإبداع في الخدمات الرأسمالية والمصرفية.
أيضا,يحسب لهذا المجتمع قدرته علي خلق الموارد وتدويرها من العدم.ففكرة توريق الديون وتصديرها خارج البيت الأمريكي -تتجسد فعليا في العملية البترولية.فحينما ترتفع أسعار البترول -يتم إيداع الفائض من البترودولار في البنوك الأوربية والأمريكية,التي تقدم بدورها علي شراء ما تم طرحه من أذون وسندات أمريكية. هذه الأذون والسندات -هي نفسها صك الإنقاذ لتمويل العجز التجاري وإعادة شراء البترول من جديد.
كذلك أيضا,في تعاملها مع سوق العمل,لا تتوقف الولايات المتحدة عن دعوتها للملايين إلي الهجرة والعيش فيها من أجل رؤية مستقبلية- تؤدي إلي:
* تطعيم المجتمع الأمريكي بالشباب الذي تلقي تعليمه الأولي في بيئات كادحة,لا تعرف إلا الانصياع الكامل (أدبيا وإنتاجيا ومعنويا) رغم استمرار ارتفاع الإنتاجية الأمريكية بمقاييس الأداء العالمية.
* الوصول إلي مستوي متقدم لنسبة الأقليات في المجتمع الأمريكي,إذ أنها رمانة الميزان في الحفاظ علي القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية,فضلا عن أن تداخل هذه الأقليات في أعماق المجتمع المترف يذكره بالقيم التقليدية للعمل الجاد,ويمكنه من العيش الحصيف ويعيد إليه ذهنية المواطنة بين أبنائه.
* زيادة المعروض من العمالة المدربة وغيرها,للوصول بالأجور وتكلفة الإنتاج إلي مستوي تنافسي -محليا وعالميا.
وعلي المستوي العسكري وتقنياته تنفق الولايات المتحدة 25% من ميزانيتها علي جيوش المرتزقة,بالإضافة إلي ما تنفقه علي البحوث العسكرية والفضائية كمبادرة الدفاع الفضائي وبرنامج هارب النيتروني للتأثير المناخي علي الدول المناوئة.
وتستثمر الولايات المتحدة أزمات حقيقية أو مفتعلة من أجل تواجد بحري مكثف في شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي وخلافه.
كما تفرض هيمنتها العسكرية في قواعد بحرية وجوية في أكثر من مائة دولة حول العالم,فضلا عن 20% وكالة استخبار في هذه الدول (نقلا عن جامعة برنستون).
ولها 12حاملة طائرات نووية,تدور حولها أعداد هائلة من الطرادات والمدمرات والغراصات الموجهة ذاتيا,بالإضافة إلي الدروع الصاروخية والأقمار الصناعية.
وتملك الولايات المتحدة دوريات مستمرة تجوب جميع الطرق البحرية الرئيسية في العالم -للمراقبة والاستثمار الفوري للأزمات.وتستطيع في صفقات متكافئة أن تضحي بمساعدات إنسانية علي أفواه البنادق العسكرية والمغانم السياسية-كما في العديد من الدول الأفريقية.
وتتدخل علنيا أو سريا -بطريقة أحادية الجانب في الشئون الداخلية للدول الأخري منذ عام 1945 وإلي الآن,كجزء استراتيجي في السياسة الخارجية: لم تتردد في الدخول إلي باكستان والعراق ولبنان وفلسطين وإيران وسورية والصومال والسودان وأوكرانيا وجورجيا وكازاخستان ونيكاراجوا وبنما -كما استطاعت بنجاح أن توظف مبادئ ميكافيللي في أفغانستان للتخلص من الجيش الروسي- في منطقة لا تبعد أكثر من 300ميل عن مضيق هرمز,الذي يعبر منه أكثر من ثلثي الموارد النفطية إلي العالم.
ولا تتردد عن تهديدات حادة وعقوبات اقتصادية تفرضها علي إيران,لمنعها من مزاوجة التوجه الإمبراطوري الفارسي وعبر السيطرة علي مضيق هرمز.وتسعي الآن إلي خنق أفعي الإرهاب-علي مستوي العالم.
تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها بلا كلل -مروجة ابتكارات سياسية وإنسانية تحت مفاهيم الديموقراطية والرأسمالية وحقوق الإنسان والطفل والمرأة.
وتقدم الدعم والقروض الحكومية والهبات الخاصة إلي الأنظمة والنخب المستعدة للتعاون معها,بالإضافة إلي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمؤتمرات الثقافية وبرامج تحدي الألفية ومبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط.
تفرض ثقافتها وأنماطها الاستهلاكية علي جميع دول العالم.وتستطيع تحريك الموارد وتوظيف القيادات في أي بقعة بالعالم,للخروج من أي مأزق.
وأخيرا نحن بصدد معين فكر ولا ينضب…ونظام تتعدد مسالكه…وحيل تتنوع رؤاها…بل وقدرات تتشابه مع إمبراطوريات الماضي.علينا أن نرتب أفكارنا ونعيد حساباتنا حتي نستطيع أن نحملق في شمس الواقع بأجفان جامدة…فلا نضير أنفسنا ولا نضير النور.
E-mail:[email protected]