بعد ثورة 25 يناير وتحرر الحياة الحزبية من قيود عصر مبارك,اتصلت بي بعض الشخصيات القبطية الطيبة المتحمسة وطرحوا فكرة تأسيس حزب قبطي, وكان ردي ان هذه تجربة صعبة وضارة بوضع الأقليات كما أنها تؤدي في النهاية إلي التناحر الديني والطائفي, فالعمل السياسي من ضمن أهدافه الرئيسية الاندماج الوطني علي أرضية المواطنة في حين أن الاحزاب الدينية أو الأقلوية تؤدي إلي التناحر والعزل والتمترس حول الطائفة بما يؤدي إلي عكس الهدف تماما.
وقبل أن ننتقل إلي الخبرة الدولية في مجال تقييم هذا النوع من الأحزاب لدينا في مصر تجربتنا الخاصة, ففي العقد الأول من القرن العشرين بدأت موجة تأسيس الأحزاب المصرية, وبالفعل تم تأسيس الحزب الوطني برئاسة مصطفي كامل, وكانت جريدة اللواء هي المعبرة عنه, وكذلك حزب الإصلاح وكانت جريدة المؤيد المعبرة عنه برئاسة الشيخ علي يوسف, ثم حزب الأمة بقيادة احمد لطفي السيد وكانت جريدة الجريدة هي المعبرة عنه, ولما كان الحزب الوطني يدعو للجامعة الإسلامية واستمرار الخلافة العثمانية وتم تمويله من طرف السلطان عبد الحميد الذي أنعم بالباشوية علي مصطفي كامل, وحزب الإصلاح أيضا ذو توجه إسلامي, ووسط ارتفاع حدة الجدل الديني علي بعض صفحات الجرائد تحمس أخنوخ فانوس روفائيل, وكان شخصية قبطية عظيمة ومرموقة ومثقفا حاصلا علي الدكتواره من الجامعة الأمريكية ببيروت,وأعلن عام 1908 عن تأسيس حزب قبطي سماه ## الحزب المصري## وقد فشلت الفكرة تماما ولم يتحمس لها الأقباط, وجاء حزب الوفد الليبرالي العلماني بعد ذلك واحتضن جناحي الأمة وناضل من أجل تحرير مصر من الانجليز, بل وكان من أكثر المتحمسين لحزب الوفد أستر فانوس وجميل فانوس أبناء أخنوخ فانوس, طبعا مستفيدين من نصائح والدهما وتجربته ورؤيته.
هذا علي مستوي الخبرة التاريخية المصرية, أما عن الخبرة العالمية فلا توجد أحزاب أقليات في التجارب الديموقراطية العريقة في أمريكا وأوربا,فالناس تشارك في الأحزاب علي أساسي برامج سياسية وليس علي حساب استقطاب ديني أو طائفي, كما أن تعريف الأقلية السياسية يختلف عن الأقلية الدينية أو العرقية, فالأقلية السياسية مرنة ومتحركة وتتحول إلي أغلبية حسب أدائها السياسي, وتعود إلي مقاعد الأقلية عندما تفشل في الحصول علي أغلبية تصويتية, في حين أن الأقلية الدينية أو العرقية هي أقلية عددية جامدة وثابتة ومن ثم تشكل كتلة طائفية معيبة للنظام الديموقراطي, ولا يوجد نظام ديموقراطي حقيقي يقبل بهذا.
أما إذا علمنا أن هدف الحزب الرئيسي هو الوصول للسلطة والحكم, فهذا معناه استحالة وصول أحزاب الأقليات إلي هذا الهدف بحكم كونها أقلية عددية وليست سياسية, ومن ثم يضيع هدف الحزب الأساسي.أما إذا تنازل الحزب عن هذا الهدف ونزل بسقفه السياسي إلي مجرد الحصول علي حصة برلمانية ولو صغيرة, فهذا أيضا لن يحدث إلا إذا كانت الأقلية مركزة في منطقة معينة بما يشبه الجيتو , وهذا غير متوفر في حالة أقباط مصر. وحتي الأقليات المركزة في منطقة محددة فليس من صالحها الانخراط في حزب أقلية لأن ذلك معناه أن حصتها البرلمانية ستكون فقط عاكسة لهذا التركز العددي, وهذا يحد من طموحها السياسي.. وفي النهاية لا تستطيع تمرير أي قانون أو مقترح إلا بموافقة الأغلبية.
قوة الأقلية وتفوقها وتميزها هو أن تكون متواجدة ومؤثرة علي التيار السياسي العام, خذ مثلا الأقلية اليهودية في أمريكا ونسبتها حوالي 2%, قوتها تنبع من تواجدها وتأثيرها علي الحزبين الجمهوري والديموقراطي معا من خلال التصويت والتمويل والمشاركة في العضوية والسعي للترشيح, والصفقات السياسية وجماعات الضغط ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث وغيرها, بل أن وجود اليهود في المناصب السياسية أعلي بكثير جدا من نسبتهم العددية حيث وصلت إلي 13% من عضوية مجلس الشيوخ, وهذا يعكس التأثير الناجح علي التيار السياسي العام. أيضا السود ومواطنو أمريكا اللاتينية نسبتهم العددية تدور حول 15% لكل منهم, ومع هذا لم يفكروا في تأسيس حزب لأن هذا سيضر بالديموقراطية ولن يحقق أهدافهم في النهاية, ولكنهم يتواجدون بدرجة أكبر في الحزب الديموقراطي الذي يهتم بمسائل الهجرة والضمان الاجتماعي, ومن خلال الاحزاب يحققون أهدافهم الخاصة والسياسية في نفس الوقت, وهم متواجدون في كافة المناصب السياسية الهامة في أمريكا , منتخبين من قبل الأغلبية البيضاء… وهذه هي عظمة الديموقراطية وقمة نضوجها. نفس الكلام رئيس الهند السابق كان ينتمي للأقلية المسلمة وتم ترشيحه لهذا المنصب الرفيع من قبل حزب الأغلبية الهندوسية.وفي أوربا أيضا رغم التنوع الديني والعرقي لا وجود لمثل هذه الأحزاب.
أحزاب الأقليات تضر بالديموقراطية, وكذلك تضر بشدة بالأقليات.
[email protected]