رحل عن عالمنا يوم10 أكتوبر الماضي المفكر والمناضل والإنسان النبيل الدكتور محمد السيد سعيد.لا يستطيع المرء في مقال صغير أن يوفي هذا الرجل حقه علي المستوي الإنساني وفي المجالات المتعددة التي ساهم وشارك وأبدع فيها, فهو مفكر سياسي مرموق ومبدع, وأحد أهم فرسان حقوق الإنسان في مصر والمنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة, ومناضل وطني من طراز نادر وأصيل, وإنسان نبيل تشعر معه بالاخوة والألفة من أول لقاء ولا تخسر أبدا في رهانك علي إنسانيته.
ورغم أنه رحل وهو في أوج عطائه الفكري والوطني##59 عاما##,إلا أن ما تركه من تراث فكري يكفي لتصنيفه كمفكر وباحث سياسي من الطراز الاول, والأهم الذكري العطرة التي ستصاحب الحديث عنه من كل من عرفوه أو اقتربوا منه.
ولعله من المفيد ونحن نحتفي بذكراه العطرة أن نقدم عرضا لآخر بحث قدمه عن المواطنة في مؤتمر المواطنة الذي نظمته جماعة ##مصريون ضد التمييز الديني## في أبريل 2008 بعنوان ## التمييز الرمزي: بين بناء الأمم وتحطيمها##.
يري محمد السيد السعيد أن المساواة تعد الشرط الأساسي لعملية الاندماج الوطني, فبوجه عام تقوم البحوث حول بناء الأمم وتكاملها أو انقسامها وتصدعها علي إدراك الدور الخطير لممارسة التمييز أو إلغاء وتجاوز كل صور اللامساواة. وأكدت مدرسة التعددية الهيكلية في علم الاجتماع أن مصير المجتمعات يتعلق, إلي حد بعيد للغاية, بأداء مؤسسات الدمج الاجتماعي علي أساس المساواة. فإن عملت هذه المؤسسات بكفاءة يمكن للمجتمع أن يتطور لأمة ويسير علي طريق صحي للتطور الاجتماعي والعكس, فإن لم تعمل هذه المؤسسات أو كانت تعمل بطريقة معاكسة وتمييزية
فسيكون مصيرها الانقسام علي أسس عرقية أو دينية وطائفية… وربما ينتهي الأمر أيضا لتصدعها وانقسامها السياسي.هذه رؤية واضحة من عالم سياسة مرموق يشرح فيها بجلاء أن الخطر علي مصر يأتي من هؤلاء الذين يميزون ضد مواطنين مصريين آخرين, وأن النتائج الخطيرة المترتبة علي ذلك يتحملها هؤلاء الذين يميزون ضد مواطنيهم, وأن الطائفية هي التمييز وليست الدفاع عن التمييز.
وطوال ورقته يشرح بعمق أن الأقباط ضحايا لهذا التمييز المخرب للأمة, وأن النظام السياسي والدولة بمؤسساتها تتحمل وحدها مسئولية هذه النتائج المترتبة علي هذا التمييز, فالتمييز أساسا مصدره الدولة والنظام السياسي والأجهزة الأمنية.. يقول محمد السيد سعيد: يعتقد الأقباط المصريون أن ثمة شيئا مهينا وشاذا تماما في وجود إدارة أمنية باسم ##متابعة النشاط القبطي##, ويعتقد أيضا أن ثمة توجهات بوضع قيود علي حركة أعيان المجتمع القبطي في مراحل الأزمات السياسية.
ويري محمد السيد سعيد أن التمييز والتهميش السياسي والتحقير من رموز الأقلية هو أخطر أنواع التمييز, ويقصد بالتمييز السياسي في مفهومه, هو الإعلاء من شأن رموز جماعات معينة وإنكار أو إخفاء أو تحقير أو تنزيل مكانة رموز جماعة أو جماعات أو هويات فرعية أخري. ويظهر هذا التمييز في أربعة مستويات كبري في بنية الدولة: الخطاب الأيديولوجي, والإعلام, وبنية الدولة والسلطة من الناحية الدلالية, ومن ثم خريطتها الولائية والأمنية والتجنيد للوظائف الكبري في هذه المؤسسات, وأخيرا طبيعة الممارسة السياسية الفعلية.
ينطلق محمد السيد سعيد من عهد الخديوي إسماعيل لتقييم مدي درجة الاندماج والتفكك الوطني, فقد حققت مصر مستوي عاليا من الاندماج القومي بداية من عهد إسماعيل وصل لذروته في ثورة 1919 حيث صار الولاء والانتماء لمصر يتم عن طريق التأكيد علي مصر كوطن وما يعزز هذا التأكيد من رموز, ولأول مرة يقول المصريون عن أنفسهم علنا أنهم شعب وأمة مستقلة, وأن الدين لله والوطن للجميع, فالوطنية المصرية هي الوعاء الوحيد الجامع, والمواطنة هي القاعدة الدستورية للدولة, والمساواة هي المعيار والمحك, والرمز هو الهلال مع الصليب.
ثم جاء الاغتراب مع جماعة الإخوان المسلمين الذين أقاموا ممارستهم السياسية علي أسس دينية, وجاءت ثورة يوليو كما يري وحققت المساواة بشكل عام في التوظيف في المستويات التحتية والوسيطة ولكنها ركزت عوامل الاغتراب عند الأقباط في التوزيع غير المتساوي للرموز في المجال العام, فالخطاب الإعلامي ركز علي العصر الإسلامي وعلي المصادر الإسلامية للهوية المصرية والعربية, ولم يكن مسموح إذاعة الصلوات الدينية المسيحية بالمقارنة بالتوسع المذهل في إذاعة كل التعبيرات الإسلامية, وبدا من منظومة التمثيليات الإذاعية والتليفزيونية أن مصر تتكون من مسلمين فقط, وتم حجب الأقباط عن الإعلام, وفي المرات القليلة التي وقعت فيها تغطيات للحياة القبطية الدينية والاجتماعية كانت الرسالة مملوءة بالشكوك والتشكيك في وطنية الأقباط.
ويواصل محمد السيد سعيد, أن الاغتراب الذي شعرت به الطبقة الوسطي العليا والبرجوازية القبطية الكبيرة في ظل الناصرية لا يقارن بالانقلاب الذي حدث في الموقف من الرموز القبطية في ظل السادات ومبارك, ففي المجال السياسي عزز السادات انقلابه السياسي بخطاب أيديولوجي يركز علي الإسلام ويهمش الوطنية المصرية, كما فشل مبارك في إحياء الخطاب الوطني وهو ما مكن التيار الديني السياسي من احتكار الفضاء الرمزي كلية بما في ذلك الإعلام الحكومي. وبدا تعريف الوطن ذاته وكأنه مفهوم ديني, وأن المحور الرئيسي للوجود الاجتماعي ومن ثم الحقوق والولاءات هو الدين, إلي الحد الذي تسمي فيه الأرض المصرية بأنها ##أرض المسلمين##, كما كان يطلق عليها الشيخ الراحل محمد الغزالي, وهيمنت عملية أسلمة المجال الرمزي كله إلي الدرجة التي لا بد أن يشعر معها الأقباط بالهامشية. وصار التجنيد للوظائف الكبري مؤسسا علي خريطة دينية. كما أصبح الدين محورا للممارسة السياسية خاصة فيما يتعلق بالانتخابات العامة. وبوجه عام فإن سيطرة الأمن والتفوق الكاسح لسلطة الأمن بالمقارنة بالسلطات والمؤسسات السياسية عزز هذا الميل للتمييز الرمزي ضد الأقباط. وصار الأقباط يمثلون بشكل رمزي في السياسة والبرلمان بإرادة رئيس الجمهورية, وأن تولي الوزارة يرتبط بالطاعة والولاء للحاكم بدخول واكتساب عضوية الحزب الوطني, واحتفظ الحكم بميراث التمييز في بعض المجالات المهمة مثل قانون الشركات وقانون الجنسية وبالطبع في كل ما يتعلق ببناء الكنائس وإصلاحها, وفي جميع حالات الإعتداءات والعدوان علي الأقباط يتم التعامل بالذات بصورة سلبية مع الرمز الأول للمسيحيين المصريين وهو الصليب من قبل المتعصبين.
ويخلص محمد السيد سعيد من ورقته بوجوب التأكيد علي أن العودة لإحياء الوطنية المصرية هو الطريق المأمون فعلا للاندماج الوطني والنهضة لبلادنا, وهذا لن يتم بدوره بدون وقف التمييز ضد الأقباط تماما والذي تتورط فيه الدولة ومؤسساتها بشكل رئيسي.
رحم الله محمد السيد سعيد المفكر الوطني المهموم بتقدم بلده, والحقوقي البارز الذي يري الأمور بشكلها الواضح ويضع المسئولية علي الجاني الحقيقي ولا يلوم الضحية, والمصري الأصيل الذي شخص الداء الذي يعاني منه وطنه حيث الفساد والاستبداد وغياب الحريات وهي تشكل المناخ المثالي لتغول التمييز الديني.
[email protected]