جوهر المعركة التي تدور رحاها حاليا في مصر بين من يرون تأجيل كتابة الدستور إلي بعد الانتخابات ومن خلال المجلس التشريعي المنتخب, وبين من يسعون لصياغة الدستور قبل الانتخابات التشريعية من خلال مؤتمر دستوري يمثل خيرة عقول الأمة , هو في الحقيقة معركة بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة المدنية,بين من يرون أننا نعيش في حقبة الإسلام السياسي بما في ذلك حقهم في صياغة الدستور وبين من يؤمنون بأن مصر تستحق نظاما ديموقراطيا حديثا ودولة مدنية عصرية بعيدا عن القوميين والإسلاميين والعسكريين, وهي معركة بين من يقدمون مصالحهم السياسية الضيقة علي مصلحة الوطن وبين من يرون أن مستقبل مصر أهم وابقي من المصالح السياسية الآنية وهو أخطر بكثير من أن يترك لفئة أيديولوجية تتحكم في مصيره, بين من يرون أن الفئة الغالبة من حقها صياغة الدستور ومن يرون أن الدستور أساسا قائم علي مبدأ التوافق الوطني وإلا فقد شرعيته المحلية والدولية وأصبح مفروضا علي فئة من الشعب كبرت أو صغرت, هي معركة بين مجموعتين كل منهما من عالم مختلف عن الآخر ويتحرك علي أرضية مختلفة تماما.
جوهر المعركة بين الماضي والمستقبل, بين ديموقراطية خداع الصناديق والديموقراطية الليبرالية , بين السلفية والمعاصرة,بين المحلية والعولمة,بين الصفقات التحتية والحوار الوطني,بين المراهنة علي البسطاء وبين محاولة رفع الوطن بسطاءه إلي مستوي ومكانة أعلي,بين من يرون أن المستقبل هو امتداد للماضي مع تغيير اللاعبين وبين من يرون أننا في لحظة تاريخية تستوجب إعادة بناء الوطن علي أسس مختلفة وصحيحة.
إن أهم ما يؤدي إلي نجاح التحولات التاريخية هو الحوار والتوافق الوطني, وليس شئ يفوق الأهمية من كتابة الدستور لكي يتم عليه هذا الحوار وهذا التوافق. في لحظات بناء الأمم أيضا هناك ضرورة للمساهة البارزة للعقول الوطنية الراقية والمحترمة والمؤهلة.هل هناك وثيقة أهم من الدستور في أي دولة لكي يتم شحذ عقول الأمة من أجل إخراجه علي مستوي رفيع يضاهي الدساتير العظيمة في تاريخ الدول.
لنأخذ من الدستور الأمريكي مثال يمكن الاهتداء به في هذه الظروف الجدلية, خاصة وأنه أقدم دستور غير منقطع الاستعمال في العالم كله, ويمكن الاستفادة بعدة دروس منه
أولا الدعوة إلي مؤتمر وطني عام ## مؤتمر دستوري## يضم خيرة عقول الأمة , وهو ما حدث في مؤتمر فلادليفيا الشهير في 25 مايو 1787 تحت عنوان ## أمة واحدة.. دستور واحد…. مصير واحد##, وضم اثنين عن كل ولاية أمريكية ,كان من بينهم بنجامين فرانكلين, وجورج واشنطن, والكسندر هاملتون, وجيمس مادسيون… الخ. اجتمع الأباء المؤسسون للدولة الأمريكية واختلفوا وتجادلوا ولكنهم كانوا يفكرون بعمق بصنع أفضل دستور يضمن العزة والكرامة لشعبهم والتقدم لوطنهم, وأيضا كان هناك تسامي واضح عن الأنا الشخصية حيث رفض بنجامين فرانكلين تولي رئاسة الدولة وقال نريد شخصا اصغر سنا ورشح جورج واشنطن وهو ما كان.
ثانيا: إن الدساتير يصنعها البشر من آجل البشر ولا بد أن تراعي في النهاية مصلحة البشر,فبعد كتابة الدستور وعند التصديق ادخلت عليه عشرة تعديلات وهي التي سميت فيما بعد ## وثيقة الحقوق##, واصر جورج مايسون الملقب بابو الدستور إدخال هذه التعديلات, وكان مايسون قد الف من قبل إعلان فريجينيا للحقوق عام 1776 , واستفاد الدستور الأمريكي من هذا الإعلان في وثيقة الحقوق, ومن أهم بنود هذه الوثيقة التعديل الأول الشهير الذي وضع الأساس لعلمانية الدولة ولحرية التعبير والذي نص## لا يصدر الكونجرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته, أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة, أو من حق الناس في الاجتماع سلميا, وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف##. والتعديل التاسع الذي وسع في الحقوق الحاضرة والمستقبلة وفسر كل شئ من معيار التوسيع ومناصرة الحرية ونص علي ## إن تعداد الدستور لحقوق معينة لا يجوز أن يفسر علي أنه إنكار لحقوق أخري يتمتع بها الشعب, أو انتقاصا منها##, وجاءت ستة تعديلات في وثيقة الحقوق العشرة لضمان العدالة من بداية الاتهام وحتي صدور الأحكام.
ثالثا: الدساتير ليست مقدسة, فقبل الموافقة علي الدستور ادخلت عليه عشرة تعديلات وتوالت التعديلات حتي وصلت حاليا إلي 27 تعديلا, والآن نحن في مصر نصنع من إعلان دستوري مؤقت وصادر بشكل فوقي بقرة مقدسة نريد أن نبني مستقبل مصر كله التي قدمت لنا رغم ما بها من عيوب جسيمة ورغم فرضها علي الثورة من أعلي.
رابعا: الدستور هو ركيزة مستقبل الدولة ولهذا عليه أن يقرأ المستقبل لا الماضي وهو ما قاله جورج مايسون في مقولته ## في وضعنا لنظام نرغب في أن يستمر لاجيال علينا أن لا نغفل التغيرات التي ستحدثها الأجيال##.
خامسا: هو الفصل التام والكامل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية, مع توزيع السلطات في توازن دقيق بينهم بحيث يجعل كل سلطة تراقب ولا تتحكم, تشارك ولا تستأثر, تحاسب ولا تنفرد,لا تفلت من المسألة ولا تتذرع بعدم المسئولية.
وأخيرا تفسير المحاكم الدستورية لمواد الدستور فيما بعد يجب أن يكون في اطار توسيع الحقوق والحريات والحرص علي ضمانات العدالة, وهو ما جاء في العديد من احكام المحكمة العليا في أمريكا والتي وسعت واوجبت تفسير مواد الدستور بما يتعلق بحماية كافة الحقوق المقررة في مواثيق حقوق الإنسان الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة, ولكن مما يؤسف له في مصر أن مئات الاحكام الصادرة عن المحاكم المصرية فسرت المواثيق الدولية في ظل قيد الشريعة ففرغتها من مضمونها بدلا من الحفاظ علي هذه الحريات, ولهذا علينا أن نصيغ مادة واضحة في الدستور بأن لا تكون مادة الشريعة مقيدة لأي من الحقوق الأخري الواردة بالدستور أو للمواثيق الدولية.
معركة الدستور هي معركة مستقبل مصر… ومستقبل الدولة المدنية… ومستقبل الديموقراطية.. ومستقبل التوافق الوطني.. ومستقبل ضمانات الحريات الفردية والعامة, ولهذا فعلي المصريين أن يخرجوا إلي ميدان التحرير يوم 8 يوليو بكثافة للدفاع من مستقبلهم وحرياتهم ودماء شهدائهم التي كانت تصرخ مدنية مدنية..سلمية سلمية… حرية.. كرامة.. عدالة اجتماعية.