لم يفاجئني ”انتصار حماس العظيم” علي جيش إسرائيل. مثل هذه الانتصارات أصبحت تقليدا عربيا منذ النصر الإلهي في لبنان. محمود الزهار في خطابه, يذكرني بكل المنتصرين بثمن خرائب شعوبهم, وباتساع ”مقابرها القومية”. كيف ننتصر دون أن تزداد مقابرنا, ونذرف الدموع ألما وضياعا وإحباطا؟ أمس انتصرنا بمئات القتلي وآلاف الجرحي في لبنان, انتصرنا بجلب الدمار لقري وأحياء وجسور وبني تحتية أعادت لبنان نصف قرن إلي الوراء, ربما من معاني الانتصار الإلهي أيضا إحباط خطط الصهاينة بإعادة لبنان قرنا كاملا إلي الوراء.. لم يسمح لهم المنتصر الإلهي إلا باعادة لبنان نصف قرن فقط!! واليوم في غزة مئات القتلي والجرحي من الأطفال والنساء والشيوخ, والجرحي يموتون دون فرصة للعلاج في دولة حماستان المنتصرة إلهيا علي دولة الصهاينة في حرب الأيام الخمسة للزهار, انتصرت حماس بمئات المنازل المدمرة ومئات آلاف الأشجار المقلوعة والطرقات المجرفة, ولم يتبق ما يصلح للتدمير في دولة حماستان إلا الإنسان الفلسطيني, وسيكون الانتصار العظيم يوم تصبح غزة مقبرة جماعية كبيرة للحلم الفلسطيني.
ألم ينتصر طاغية العراق في وقته صدام حسين علي إيران بمليون ضحية وتدمير اقتصاد العراق, ونشر المقابر الجماعية للمعارضين, وقطع آذان المتخلفين عن الموت في الجبهة, وهروب ملايين العراقيين إلي المنفي؟..
ألم ينتصر بشار الأسد يوم أعلن, بعزيمة قوية… ردا علي الغارة الإسرائيلية الأخيرة, وقبلها ردا علي تحليق الطيران الإسرائيلي الاستفزازي فوق قصره الرئاسي, إن الرد السوري سيكون مؤلما”في الوقت المناسب”؟.. ويا ويل المعتدين من العرب إذا تبين أن العرب يملكون في دنياهم مثل هذا ”الوقت المناسب”!!
ربما نحن العرب لم نعد نعرف معني الخجل. ولم نعد نعرف معني ”الوقت المناسب”. فقط أحزابنا الإلهية تعرف كيف تحقق الانتصارات بتدمير أوطانها وتعريض مواطنيها للقتل والتشويه, فهي بالحساب الأخير لن تخسر شيئا, لا سلطة ولا برامج تطوير, ولا بني تحتية, ولا أموالا, ولا تطوير للتعليم والعلوم والضمانات الصحية والاجتماعية, وضمان مستقبل أبناء الوطن. ولن يقلقها ازدياد ديون الدولة وخراب الاقتصاد, ولا تتعطل أحلامها الإلهية بالجنائن السماوية… إنما تزداد اتساعا واقترابا من الحلم والوهم!!
قلبي يؤلمني علي شعبي, وكل شعب… يتعرض للقتل اليومي وتدمير مرافق حياته, لأن صناضيد حماس وأشباههم يواصلون تحرير غزة الفلسطينية من الفلسطينيين. يواصلون ألعابهم النارية مع الوحش العسكري للشرق الأوسط بوهم أنهم ينزلون به الخسائر والهزائم.
ليس مستهجنا أن يقارن المراقبون السياسيون بين حزب الله وحماس, الأول زج بلبنان في حرب لا يريدها الشعب اللبناني, خدمة لملالي قم وأتباعهم العرب في دمشق. والثاني يزج بالشعب الفلسطيني في حرب تتناقض مع آفاق الوصول إلي حل يخرج الحلم الفلسطيني إلي الضوء.
الأول تمرد ويواصل التمرد علي الشرعية اللبنانية, والثاني تمرد ويواصل التمرد علي الشرعية الفلسطينية.
الأول يهدد بإبادة إسرائيل, مؤمنا أن موت اللبنانيين وتدمير لبنان انتصار إلهي, والثاني يسير علي دربه مهددا بإبادة العدو الإسرائيلي بين خرائب ومقابر الشعب الفلسطيني, مؤمنا أن الموت انتصار فلسطيني.
الأول إذا استمر سيقود لبنان إلي كارثة, من الصعب تقدير مداها, والثاني إذا استمر سيقود الشعب الفلسطيني إلي ضياع لا عودة منه, ربما لمئات السنين القادمة.
هل من يوقف هذه المغامرات بمصير الإنسان اللبناني والفلسطيني ؟
هل من يصون حقوق الشعب الفلسطيني ومستقبله, من أخطر أعدائه, المنتصرون في غزة؟
هل من يصون حقوق الشعوب العربية من مصائبها السلطوية, والواهمين بالانتصار عبر المزيد من الدمار والموت؟
لا لست انهزاميا, ولست ممن يعومون علي شبر من السياسة.ولست أعمي البصر والبصيرة.. ولست سعيدا بالهزائم العربية, وما زالت مرارة هزائمنا تملأني ألما وحنقا.ولكني أحب شعبي ويؤلمني أنه ما زال يصدق الدجالين, ما زال يصدق المهزومين من ساسة لا يؤتمنون إلا علي تسييس الخيل. وأري طريق الكوارث في هذا الزمن العربي الأسوأ من السيء. أري الانتصارات الوهمية وما ستجلبه من كوارث إذا تواصل وهمنا بأصحابها. أري كيف تحول اغتيال نشيط عسكري من حزب الله, ربما من أقرب المقربين عربيا لحزب الله إلي حدث له امتداد دولي, بينما قتل شخصيات مركزية, من رؤساء حكومة ووزراء, أخرجوا لبنان من حربه الأهلية, وأعادوا بناء مؤسساته وبناه التحتية, وفتحوا آفاق الانطلاق إلي المستقبل أمام شعبه, وشخصيات لم تحمل في تاريخها إلا القلم ولم تحترم إلا العقل, لم يثر أدني غضب أو تنديد ورفض من الحزب الإلهي, رغم أنه اتهم إسرائيل بالجرائم وانتهي الموضوع عند هذه العبارة. هل لنا أن نستنج ما هو وراء الصمت علي قتل الشخصيات اللبنانية, وأحدهم هو جورج حاوي, الشيوعي الحقيقي الذي بادر إلي تنظيم المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني. وربما جاء قتله للحيلولة دون إسماع صوته ضد بيع الحزب الشيوعي وصحافته بالمزاد العلني في سوق الملالي؟!
لا أستهتر بالصمود الذي حققه رجال حزب الله, ولا أستهتر ببطولات أسطورية ليس لنا معرفة سابقة للجيوش العربية بها. ولا أستهتر بالمعني الاستراتيجي, السياسي والعسكري… الذي أنجز في هذه الحرب. ولكني مضطر إلي طرح سؤال جوهري, لمصلحة من زج بالشعب اللبناني في هذه الحرب التي لم يتحضر لها ولم يتخذ القرار بخوضها, ونزلت عليه نزول الكارثة؟! نفس السؤال ينطبق علي الأبطال الفلسطينيين الذين يضحون بأرواحهم في حرب غير متكافئة إطلاقا ومدمرة للحلم الفلسطيني. إن ما يجري في غزة هو استمرار للتمرد علي الشرعية الفلسطينية. هو استمرار في قتل كل أمل في الوصول إلي إقامة وطن قومي للشعب الفلسطيني ووقف نزيف الدم الفلسطيني.
إن ما ترتكبه إسرائيل في قطاع غزة, وما ارتكبته في لبنان سابقا هي جرائم حرب بشعة, إن استهداف المدنيين لا تبرير له. أيضا لا أستطيع إلا القول إن استهداف المدنيين في إسرائيل جريمة حرب بكل المقاييس التي نعتبر فيها استهداف إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين جرائم حرب. إن حربا تجري بين قوتين تستهدفان المدنيين, في غزة أو في غيرها هي تجاوز لكل مفاهيم أمنية أو نضالية.
إن أكبر انتصار للشعب الفلسطيني هو عودة قطاع غزة إلي حضن السلطة الفلسطينية, وعزل كل المغامرين بمصير هذا الشعب الذين يدفعونه إلي الموت والضياع.
إن حماس تعطي التبرير الكامل للعدوان الإسرائيلي, وتفتح أمام إسرائيل الفرصة للمزيد من التملص بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة. وانتصارات حماس ستنزل المزيد من الكوارث علي شعبنا وحقوقه.
نحن لا نعيش علي أوهام وخرافات حماس. منذ الساعة الأولي, من انتصار حماس في الانتخابات الفلسطينية كتبت أن انتصار حماس كارثة للشعب الفلسطيني. وللأسف رؤيتي لم تكن بعيدة عن الواقع الكارثي الذي تقود حماس شعبنا الفلسطيني إليه.. طريق الانتصارات الإلهية!!
والمؤلم أننا نتألم بصمت ولا نجرؤ علي بق الحصوة والصراخ بوجه حماس: كفي!!
أعطوا للسلطة الفلسطينية أن تقود نضال شعبنا بما يتلاءم وظروفنا المعقدة والمركبة داخل الحصار الإسرائيلي والعربي. علي الأقل تعالوا نجرب هذه الطريق, طريق المفاوضات.. التي تآمرنا عليها, ونعمل بنشاط فلسطينيين مضللين وعربا أتباعا لوأدها.
[email protected]
كاتب فلسطيني