هناك قدر لا بأس به من الإجماع, حول فكرة إن الاقتصاد الدولي بحاجة إلي إعادة توازن, بعد أن أنفقت دول مثل أيسلندا, واليونان, وإسبانيا, والولايات المتحدة أكثر مما ينبغي قبل الأزمة, ومولت ذلك الإنفاق المسرف من خلال الاقتراض الحكومي أو الخاص. في الوقت الذي قامت فيه دول مثل ألمانيا, واليابان, والصين بتزويد تلك البلدان بالبضائع, حتي في الوقت الذي كانت تقوم فيه بتمويل عاداتها الغذائية.
ومن أجل تكوين إجماع يحتاج الأمر, ببساطة, من الأسر الأمريكية إلي الإنفاق أقل, ومن الأسر الصينية إلي الإنفاق أكثر, حتي يمكن إعادة التوازن المطلوب. قد يكون من قبيل التبسيط أن نختزل عدم توازنات الموازين التجارية العالمية, في عدم توازن واحد بين دولتين فحسب هما الولايات المتحدة والصين. ولكن نظرا لأن السجال العام يدور تحديدا حول هذا الأمر, فإنه قد يكون من المفيد أن نتساءل هنا: هل كل المطلوب من أجل تصحيح اختلالات التوازن أن تغير الأسر الأمريكية والأسر الصينية شخصيتها.
فمن المعروف أن السلوك الاستهلاكي لشعب ما, ينبني علي عادات, تكونت عبر الزمن, وهي عادات تتحدد بناء علي الثقافات القائمة. فاقتناء سيارات ##همر## أو قيادة السيارات الكبيرة ذات الدفع الرباعي كانت تتخذ كمؤشر علي مدي ثراء أصحابها – قبل أن تتزايد الهموم بشأن الاحتباس الحراري بالطبع – ولكن التركيز علي السلوك الاستهلاكي يؤدي إلي غض النظر عن الأسس السياسية الأعمق للسلوك الذي نراه أمامنا.
ولكن كيف روج العم سام للديون الاستهلاكية؟ إن الاستهلاك الذي يتم توفير تكاليفه من خلال الاقتراض قد تعاظم في أمريكا بسبب سعي الحكومة لزيادة نطاق ملكية المنازل, وخصوصا في أوساط الأسر المنخفضة الدخل. وعندما ارتفعت أسعار تلك المنازل فيما بعد, شعرت تلك الأسر بأنها قد أصبحت أكثر ثراء, وهو ما شجعها بالتالي علي المزيد من الإنفاق لتمويل أنماط حياتها الجديدة. وهذه الظاهرة أراحت الإدارات المتعاقبة في أمريكا, كما غطت علي حقيقة أن الدخول الحقيقية للأسر الأمريكية المتوسطة لم تزد إلا بنسبة ضئيلة.
هناك سبب آخر دعا الأسر الأمريكية للإسراف في الإنفاق الاستهلاكي اعتمادا علي الاقتراض, ألا وهو سياسات الاحتياطي الفيدرالي. فمع تباطؤ التعافي الاقتصادي الأمريكي, دفع الضغط السياسي ##الاحتياطي الفيدرالي## إلي اتخاذ سياسات لتثبيط الأسر الأمريكية عن الادخار, من خلال فرض سعر فائدة منخفض للغاية علي الودائع, لفترات طويلة من الوقت, ودفعها للمزيد من الإنفاق, والمزيد من الاستهلاك.
نتج عن ذلك أن دول العالم التي رأت أن الولايات المتحدة راغبة في أن تصبح أكبر مستهلك في العالم كخيار أول وأخير, رأت أنه من الأفضل لها أن تعتمد عليها – علي الولايات المتحدة – من خلال إقناعها بزيادة الطلب علي سلعها, لإنقاذ العالم كله من الركود. عندما نري إصرار إدارة أوباما علي دعم أسواق العقارات بقدر الإمكان, من خلال الإقراض الحكومي. ومع احتفاظ الاحتياطي الفيدرالي بمعدل فائدة يكاد يقترب من الصفر, ومع المطالبات الأمريكية لدول العالم بالمزيد من الإنفاق خلال اجتماعات قمة الدول العشرين الكبري الأخيرة, فإننا سندرك أن التغيير لا يزال بعيدا.
ولكن ماذا عن الأسر الصينية؟ هنا أيضا نكتشف أن السياسة تلعب دورا, فنظرا لعدم وجود شبكات ضمان اجتماعي, وتناقص عدد الأطفال لدي الأسر(التي يمكن أن تعتمد عليهم في كسب الرزق), وميل الآسيويين التقليدي للادخار, فإن الدافع للادخار لدي الأسر الصينية كان من الطبيعي أن يكون قويا.
وتشير الإحصائيات أن معدل الادخار لدي الأسر الصينية قد ارتفع ارتفاعا كبيرا في السنوات الماضية, وهو ما يرجع إلي أن ما تكسبه تلك الأسر من الناتج القومي الإجمالي -علي الرغم من التطور الاقتصادي والأرباح الهائلة للشركات والمؤسسات – أقل كثيرا من مثيله في معظم الدول الأخري.
ما السبب في ذلك؟ السبب هو أن الاقتصاد الصيني, يركز بشدة علي المؤسسات الكبيرة, وهذا ربما يأتي علي حساب الأسر الصينية. علاوة علي أن الفائدة التي تتقاضاها تلك الأسر علي الودائع في البنوك ضئيلة للغاية, مما يسمح لتلك المؤسسات والشركات بالاقتراض من تلك البنوك بتكلفة زهيدة لتمويل أنشطتها وتحقيق المزيد من الأرباح بالتالي. ومما يفاقم من هذه الأرباح أن الشركات الصينية تحصل علي مدخلات زهيدة الثمن مثل الطاقة, والموارد الطبيعية والأراضي, علاوة علي أن الضرائب المفروضة عليها منخفضة, وأرباحها بعد دفع الضرائب مرتفعة للغاية, وأن تلك الشركات تدفع جزءا ضئيلا من أرباحها الهائلة كعوائد علي نشاطها للدولة. كل ذلك ساهم بدور في جعل الدخول التي تحصل عليها الأسر الصينية بعد دفع الضرائب منخفضة, وكذلك معدل استهلاكها أيضا.
كل ذلك يعني إن الصين إذا كانت تريد إعادة التوازن لنموها الاقتصادي, فإنها يجب أن تكون أكثر حرصا علي الأسر الصينية. ولكنها إذا أرادت القيام بذلك, فلن تجد الأمر سهلا لأنه يعني ببساطة الضغط علي أرباح تلك الشركات, وهو ما ستقاومه الأخيرة بشدة, خصوصا إذا أخذنا في اعتبارنا أن الشركات التي تحقق أرباحا كبيرة يكون لها قوة مقاومة كبيرة بالتالي – حتي في الدول ذات الحزب الواحد.
علاوة علي أن الصين ستكون مضطرة إلي التأني والحرص قبل فرض المزيد من القيود علي الشركات لئلا تلجأ إلي تسريح أعداد من العمالة الموجودة لديها, لمواجهة تلك القيود, مما يؤدي إلي تفاقم مشكلة البطالة بالتالي.
خلاصة القول إن الأزمة الأخيرة قد أقنعت الصين بمخاطر الاعتماد المبالغ فيه علي الصادرات الخارجية وبأهمية تعزيز النزعة الاستهلاكية للأسر.
بيد أن الحاصل هو أن إعادة التوازن سوف تحتاج إلي ما هو أكثر من التغيرات الاقتصادية, ستحتاج إلي إجراء تغييرات في السياسات كذلك, وهو ما سيعني تحمل آلاما سياسية لا حصر لها علي الأقل في الأمد القصير.
* كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي والأستاذ بجامعة شيكاغو
كريستيان ساينس مونيتور