من أين أتت أفكار الثورة الفرنسية؟ هل من فلاسفة أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو, أو ديكارت وهيوم وهيجل؟ لا. أفكار الثورة الفرنسية أتت من كتاب ومفكرين غير أكاديميين, وسياسيين نشطين وصحفيين وشعراء وفنانين. أتت ممن يسمون بفلاسفة المقاهي. هؤلاء تبنوا أفكار عصر التنوير في أوروبا. ونقلوها إلي الشارع والجماهير. بحيث أصبحت مطلبا شعبيا في فرنسا. وهذا ما يجب أن نفعله في بلادنا. فلا خلاص لنا إلا بوصول فكر التنوير إلي الشارع, وإلي الجماهير العريضة. كيف يتسني ذلك؟ هذه مهمة كتابنا ومفكرينا. ولا فائدة من التناطح مع القوي التي تحكمنا. طالما شعوبنا يسيطر عليها الجهل والتخلف والسلفية الدينية.
من هؤلاء نجد فولتير(1694-1778م). وهو شاعر وكاتب دراما ومؤرخ وكاتب مقال. وأشهر أعماله رواية كانديد. ومنهم أيضا, ديدرو(1713-1784م). وهو كاتب مقال وكاتب دراما وفيلسوف وروائي. ويعتبر من عباقرة التنوير الفرنسي الذين مهدوا للثورة. وهناك لامتريه(1709-1751م), وهيلفتيوس(1715-1771م), وهلباخ(1723-1789), وروسو(1721-1778م). وهم فلاسفة وكتاب مقالات ومصلحون إجتماعيون. يمثلون البرجوازية الصغيرة. وكلهم متحمسون للفكر العلمي المادي. ومنهم أيضا, الفيلسوف وعالم الرياضيات دالمبرت(1717-1783م), وعالم الرياضيات كوندورسيه(1743-1794م).
في منتصف القرن الثامن عشر, باتت أفكار ديكارت ونيوتن من شئون الماضي. وكانت الأمور هادئة وعلي ما يرام بين الكنيسة الكاثوليكية والعلوم الحديثة. ولم يقع المفكرون الفرنسيون في فخ الجدل العقيم الغير مثمر. ولم يجروا إلي خوض المعارك غير المجدية بين الفكر العقلاني والفكر التجريبي. أو في الصراع الفلسفي بين ديكارت وهيوم. لكنهم استغلوا كل الفلسفات الموجودة. واستفادوا سياسيا من كل الأفكار. لأنه كانت أمامهم معركة أهم وأجدي. وهي تخليص فرنسا من الإستبداد والحكم المطلق. وكذلك تحريرها من ربقة سيطرة الكنيسة الكاثوليكية والفكر الدجماتي المتخلف. وبناء مجتمع جديد ونظام سياسي, علي أسس مبادئ التنوير وحقائق العلوم وحقوق الإنسان.
لماذا كانت الحقائق العلمية والفيزيائية, ومعرفة طبيعة الإنسان وحقوقه المشروعة, غائبة عنا هذه المدة الطويلة؟ السبب هو أن عقل الإنسان كان مكبلا بالأغلال. اتهم المفكرون الملك والكنيسة, بغسل مخ العامة بالمعتقدات المشوهة. لحماية مصالح الفئة الحاكمة وسلطة الكنيسة. معتقدات مشوهة مثل الحق الإلهي وإتهام الشعب بالتفاهة والجهل بحقوقة السياسية, وعدم فهمه للحرية. وعدم قدرته علي تولي أموره بنفسه والمشاركة في الحكم.
طالما أغلال العقل قد بدأت تتحطم, فهذه الأفكار الخاطئة يمكن دحضها بكل المعايير المنطقية والعلمية والفلسفية.
ليس الهدف من التنوير هو رفض الدين. أو حرمان الناس من أديانهم. وإنما الهدف هو تحرير عقل الإنسان لكي يفكر بنفسه بدون وصاية. أي الهدف هو خلق إيمان تنويري في مواجهة السلطة الطاغية. يقول ديدرو:
##يجب تفكيك التراث التقليدي. وإستخدام العقل بدون وصاية من رجال الدين##.
يقول كوندورسيه:
##يجب غربلة كل شئ علي ضوء العقل. وما جاءنا من السلف ليس مقدسا ولا معصوما. وما يثبت صحته نأخذ به وإلا رفضناه##.
ويقول روسو في رسالة إلي فولتير:
##إنني ناقم مثلك علي تدخل رجال الدين والدولة في ضمائرنا وسرائرنا. فالإيمان موضوع شخصي. والله وحده يعلم ما في الصدور##.
وكان فولتير يطالب بسحق المؤسسات سيئة السمعة. حكم الملك المطلق يجب أن يسحق ويستبدل بالجمهورية. وحيث إن الإنسان مقهور وضحية, ومستهدف بواسطة المؤسسات الشريرة. لذلك فالسلطة الدينية المطلقة, يجب أن تنتهي. وتنتهي معها المعتقدات الخاطئة التي تدافع عن الاستبداد وتحميه.
لم يحدث من قبل أن كان الإنسان واثقا من معارفه العلمية وطبيعته الإنسانية ومبادئه الخلقية والسياسية. الإنسان يستطيع أن يعيد بناء المجتمع والنظام السياسي علي أسس الحق والعدل. ولم لا. أعطني حريتي أطلق يديا. فقدرة الإنسان الحر ليس لها حدود.
أهم ما جاء بفكر التنوير الفرنسي هو مفهوم الحق الطبيعي, ومفاهيم الحرية والمساواة والملكية الخاصة. ولقد تكلم المفكرون الفرنسيون عن الإيخاء العالمي للإنسانية. وطالبوا بوضع حد لصراع الطبقات. والصراع بسبب الجنس والنوع والقومية. ولقد كانوا ينظرون لأبعد من فرنسا. ينظرون إلي مستقبل الإنسانية.
خطيئة التنوير وجريمته الكبري, كما يقول المفكر الفرنسي تودوروف, هو أنه يضع الإنسان مكان الرب كمصدر للمثل العليا. ويضع العقل مكان التراث القديم. ويساوي بين البشر. ويضع حرية العقيدة مكان الإيمان بالإكراه. ويمنع استخدام الدين واستغلاله في الحياة العامة والسياسة. حتي يتجنب الناس ويلات الطائفية والتفرقة بين مواطني البلد الواحد.
لماذا نجح التنوير في أوربا. ولم ينجح في بلادنا؟ بذور التنوير كانت موجودة في العالم الإسلامي من القرن الثامن إلي القرن العاشر الميلادي. لكنها للأسف لم تستمر. وقفل باب الإجتهاد وتراجعنا وفاتنا الكثير. عصر النهضة, وعصر الثورة الصناعية, والثورة العلمية والتكنولوجيا, وثورة المواصلات. ونحن الآن نلهث ونجري في كل الاتجاهات بدون هادي أو دليل. ولا ندري من نحن أو إلي أين نذهب. وتتحكم الديكتاتورية في رقابنا وكأنها قدرنا. ويسطر رجال الدين علي أرواحنا وحياتنا من المهد إلي اللحد. وما علينا إلا أن نقارن حالنا الآن, وحال البلاد التي سبقتنا في الإيمان بفلسفة التنوير, لكي نعرف الفرق.
لقد كان لدينا في الماضي, مفكرين أحرار مثل الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الطفيل وابن باجة واخوان الصفا والمعري وابن المقفع وابن خلدون. لكنهم قمعوا بشدة بعد القرن العاشر في المشرق. والقرن الثاني عشر في الأندلس والمغرب. ولم تقم لنا قائمة بعد ذلك. وسبقتنا أوروبا ووصلت إلي ما وصلت إليه. وتحقق لديهم الحلم الطوباوي بعد موت فلاسفة التنوير بقرن أو أكثر. وتحولت بلادهم إلي جنة الحداثة بما فيها من حرية الفرد والخدمات الممتازة والنظام المستتب والنظافة السائدة والعلاقات الحضارية بين المواطنين.
هل ننكر أن فلسفة التنوير هي السبب في إلغاء الرق وإبادته من بلاد العالم المتحضر. الأمر الذي فشلت في تحقيقه الأديان السماوية الثلاث. حقيقة كان هناك تشجيعا علي العتق. ولكن الحقيقة المرة التي لا يجب أن نغفلها, هي أن الرق لم يحرم في أي دين من الأديان الثلاثة. فأسفار العهد القديم والعهد الجديد والقرآن, تجيز الرق وتباركه. وتنظم العلاقة بين العبد وسيده. وتذهب إلي حد إخبارنا بكيفية الحصول علي العبيد والجواري. وكيف نعاقبهم وطريقة ممارسة الجنس معهم!!
العبودية هي أشنع الأمور التي يمارسها الإنسان بعد القتل. إلا أن الكثيرين منا, يغضون الطرف عن هذه المشكلة الأخلاقية. بحجة أن العبيد كانوا مجرد خدم. يقومون بأعمال البيت والغيط. وإرواء الشبق الجنسي للرجل. لكن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا. فهم عبيد وجواري. سرائر وأقنان. غلبوا علي أمرهم. وسلبت كل حقوقهم. وعوملوا كالمواشي. تباع وتشتري رغما عنهم ودون ذنب اقترفوه.
في أوائل حكم بني أمية, كان الرجل يمتلك العشرات من السرايا. يفعل بهن ما يشاء. وفي عهد يزيد بن عبد الملك, كانت الملكية بالمئات. ثم بالآلاف في عهد الخلفاء العباسيين. حتي وصل الرقم إلي 4000 سرية. كان يمتلكهن الخليفة المتوكل. الذي وطئ الجميع خلال خلافته التي دامت ربع قرن. كما يقول الأصفهاني في باب أخبار النساء في كتاب الأغاني.
هل ننكر أن فلسفة التنوير, هي التي نادت بمساواة المرأة بالرجل. ونظرة واحدة علي مكانة المرأة البائسة والمتدنية بالنسبة للرجل في الأديان الثلاثة, تجعلنا ننحني إعجابا بفكر التنوير الراقي في المساواة بين الجنسين.
كما أن المساواة بين البشر غير موجودة في الأديان الثلاثة أيضا. فالدين اليهودي يؤمن بأنه شعب الله المختار. فكيف يتساوي مع البشر. والدين المسيحي والدين الإسلامي لا يؤمنان بالتساوي إلا بين أفراد الدين الواحد. والحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية خير دليل علي ذلك. لذلك فكرة المساواة بين البشر بغض النظر عن الدين والعقيدة أو الجنس هي فكرة إنسانية بحته. تنم عن عمق وفكر راق إلي أبعد حدود الرقي.
لذلك يمكننا القول بأن فكر التنوير يتلخص في تحرير اللإنسان من عبودية أخيه الإنسان. والتخلص من طغيان السلطة المطلقة أينما وجدت بين الحكام أو بين رجال الدين. والمساواة في الحقوق والواجبات بين الناس بدون النظر للجنس أو العرق أو الدين. وتحرير العقل لكي يعمل بحرية وأمان. دون خوف أو إرهاب فكري أو وصاية من أحد.
فالتنوير لا يعني القضاء علي الدين. وإنما يعني حصره في المجال الشخصي للفرد. فلن يمنعك أحد من أن تؤمن وتصلي وتقيم الشعائر كما تريد. بل هذا حق لك. وفي نفس الوقت, لن يجبرك أحد علي الإيمان. وهذا حقك أيضا, وما يعرف بالحرية الدينية. وهو مفهوم راق للتدين. لأن التدين الإجباري الناتج عن الخوف والسيطرة, لا أمل فيه وليس هو المطلوب.
[email protected]