جان جاك روسو, فيلسوف ومفكر وأديب وموسيقي, ورائد من رواد حركة التنوير, التي مهدت للثورة الفرنسية عام 1789,عاش فقيرا بائسا ومات فقيرا معدما,اضطر إلي إرسال أطفاله الخمسة فور ولادتهم واحدا تلو الآخر إلي الملجأ لعدم قدرته علي إعالتهم ورعايتهم صحيا,رفض تلقي راتبا من أحد الملوك, أو أي راتب آخر بدون أجر, علي خلاف الكثير من معاصريه الفلاسفة والأدباء.
عندما تقرأ أعماله, تجد فيها الصفاء والنقاء والصوفية,فهو يدعو إلي تنوير متوازن يراعي الجسد والروح, والعاطفة والعقل,ويسحرك حين يتحدث عن الإخاء والمساواة بين البشر, فمن هو جان جاك روسو.
ولد جان جاك روسو في مدينة جنيف بسويسرا عام 1712,عائلته من أصل فرنسي,ووالده ساعاتي ومعلم رقص في نفس الوقت,توفيت والدته بعد مولده بثمانية أيام.,قام الوالد بتعليم طفله جان جاك القراءة والكتابة حتي سن السادسة,وكان يقرأ الأب لولده بعد العشاء كتب الأطفال وقصص المغامرات,وبعد ذلك كان يقرأ له كتب جده, لفونتنيل وأوفيد ومولير وبلوتارك,وهي مطالعات أثرت في ثقافته المبكرة.
الأخ الأكبر لجان جاك, ترك منزل العائلة بغير رجعة,أما الأب إسحق روسو, فإثر مشاجرة مع ضابط فرنسي, هرب من ملاحقة العدالة, تاركا جان جاك وهو في سن العاشرة في رعاية عمه, الذي أرسله إلي مدرسة داخلية في بوساي, كان يرأسها قسيس بروتستانتي. ومكث بها سنتين, عاد بعدها إلي جنيف.
أرسل جان جاك لكي يتعلم مهنة حرفية يتكسب منها عند نقاش عنيف أناني, كان يمنع عنه الطعام حتي تعلم السرقة,لكنه في ذلك الوقت أولع بالمطالعة ولعا شديدا,ثم قرر ترك جينيف والهرب من النقاش.
في سن السادسة عشر عام 1728, كان يهيم علي وجهه في الحقول بغير مأوي, وبتوصية من الأب يونفير, أرسل إلي السيدة المحسنة مدام دي وارانس التي تقيم في مدينة أنس,كانت مدام دي وارانس بروتستانتية تزوجت في سن مبكرة ولم توفق في حياتها الزوجية التي دامت 12 سنة, ثم تحولت إلي الديانة الكاثوليكية,وكانت تعيش علي الراتب الذي قرره لها ملك سردينيا نظير تحويل الناس من المذهب البروتستانتي إلي الكاثولويكي.
قام جان جاك بالتحول إلي الكاثوليكية,وبعد عدة مغامرات غير ناجحة, عاد إلي مدام دي وارانس التي لم ترغب في أن تبقيه عندها,فأرسلته إلي إحدي المدارس الإكليركية لكي يلحق بجوقة الكاتدرائية الموسيقية.
في هذه الأثناء, تعرف علي أسقف يوناني كان يجمع التبرعات للقبر المقدس, واتخذ جان جاك سكرتيرا له في تجواله,لكن سرعان ما تم القبض علي الأسقف بتهمة النصب والاحتيال,وعندما تبينت براءة روسو تم الإفراج عنه.
ظل روسو يهيم علي وجهه بين المدن. وتعرف علي راهب كلفه بنسخ قطعا موسيقية بأجر لا بأس به,ثم وجد عملا في دائرة مساحة في شامبيري,لكن حبه للموسيقي جعله يدرس ويمارس الموسيقي بجانب عمله في المساحة, وكان ينظم حفلا موسيقيا كل شهر بمساعدة مدام دي وارانس.
هذه الأيام السعيدة بالقرب من مدام دي وارانس والتي كانت تسبغ عليه عطفها وحنانها لم تدم,وتبين له أن قلب السيدة مضيفته مشغول بفتي سويسري ضخم الجثه أشقر الشعر مفلطح الوجه يعمل مزين,لذلك كان إخلاؤه المكان هو الحل الوحيد.
وجد روسو وظيفة سكرتير لدي سفير فرنسا في البندقية, إلا أنه لم يستمر طويلا في هذه الوظيفة, فعاد إلي فرنسا لزيارة والده,وهنا تعرف علي زوجته تيريز لوفاسور التي تعمل في غسل الملابس والبياضات في أحد الفنادق,ولم تكن تعرف القراءة أو الكتابة,وحاول عبثا تثقيفها لكن دون فائدة,وكانت والدتها تسعي لاستغلاله بالقيام بوأد سبعة أو ثمانية أشخاص من أقربائها.
حاول روسو فتح بعض أبواب الرزق له,وأقيمت له حفلة موسيقية لعزف بعض أغنياته بدون نجاح,وعند ولادة طفله الأول من تيريز, خشي علي حياة الطفل من الفاقة والمرض, لذلك بادر بإيداعه أحد الملاجئ,وفعل نفس الشئ بالنسبة لباقي أطفاله الخمسة من تيريز.
لا شك أن روسو ندم ندما شديدا فيما بعد, وذاق وخز الضمير,وفي كتابه ##إميل## يقول: ##لا فقر ولا أشغال ولا حياء بشري ولا شئ من ذلك يستطيع أن يعفي الأب من أن يكفي أولاده معاشهم, ومن أن يقوم بتربيتهم هو بنفسه##.
في عام 1749 عندما كان روسو يقترب من سن الأربعين, توثقت عري الصداقة مع الفيلسوف ديدرو القريب منه في السن, والذي يشابهه في ضنك العيش,وكان علي صلة بدالامبير وكوندياك,وشارك ببعض المقالات في دائرة المعارف التي كان يصدرها ديدرو ودالامبير,ثم اشترك في مسابقة بمقال عن تأثير النهضة العلمية والفنية علي الأخلاق, حصل بها علي الجائزة الأولي,جاء فيه أن تقدم العلوم والفنون يفضي إلي فساد الأخلاق.
بعد ذلك, انتقل روسو إلي ضيافة المارشال دي لوكسمبورج وزوجته, وكتب أهم مؤلفاته,فأكمل ##هيلوبيز الجديدة##, ونشر كتاب ##العقد الاجتماعي## و##إميل##,والكتاب الأخير أثار ضجة وسخط المتدينين والملحدين والمسيحيين والفلاسفة علي السواء.
قصة ##هيلوبيز الجديدة##, كان لها تأثير بالغ في تنبيه أوربا لمفاتن الطبيعة وروائعها, وتميز روسو بالإحساس المرهف بجلال الجبال وجمال المناظر الخلابة,وتصور توافقا صوفيا بين حالات مزاجه والمزاج المتغير للأرض والهواء; وعانقت نشوة حبه كل شجرة وزهرة, وكل ورقة عشب,وبرواية ##هيلويز الجديدة##, بدأت الحركة الرومانسية تحديها للعصر الكلاسيكي.
أما كتاب روسو ##العقد الاجتماعي## فهو أهم أعماله,يبين فيه الأساس القانوني للحكم الجمهوري,وما أن صدر عام 1762, حتي أصبح أهم مصادر الفكر السياسي الحديث في العالم الغربي,كلنا يعرف الصيحة الجريئة التي استهل بها الفصل الأول: ##ولد الإنسان حرا وهو في كل مكان مكبل بالأغلال##,هذه العبارة أصبحت شعار قرن بأكمله.
افترض روسو وجود حرية و##حالة طبيعية## بدائية للإنسان لم تكن فيها قوانين. واتهم الدولة القائمة بتدمير تلك الحرية, واقترح بديلا عنها, هو إيجاد شكل جديد للمجتمع يدافع عن شخص كل عضو فيه وعن متاعه, ويحميهما بكل ما أوتي من قوة,مجتمع يظل الإنسان فيه حرا كما كان من قبل.
يقول روسو أن هناك عقدا اجتماعيا, بإتفاق الأفراد علي أن يخضعوا رأيهم; وحقوقهم, وسلطاتهم لحاجات ورأي مجتمعهم ككل,وكل شخص يدخل ضمنا في مثل هذا العقد, بقبوله حماية القوانين العامة,السلطة العليا في أية دولة, هي سلطة الإدارة العامة, أو روح الجماعة للمجتمع.
القانون يجب أن يعبر عن الإدارة العامة, لكي يصبح المجتمع أمرا ممكنا,طاعة القانون, الذي يمثل الإدارة العامة, وليس إطاعة الفرد,هي التي تحرر الإنسان من العبودية,الدولة تصبح جمهورية متي حكمتها القوانيين,أما إذا كان الحاكم (أو حزب معين) هو الذي يضع القوانين وينفذها, فليست هناك جمهورية أو دولة,بل طاغية يحكم عبيدا,ورفض روسو فكرة ##الإستبداد المنير## أو ##الحاكم العادل##, كسبب لدفع الحضارة والإصلاح.
العقد الاجتماعي يسمح بالملكية الخاصة بشرط رقابة الجماعة,والأفراد يجب أن يكونوا متساوين في الحقوق الاجتماعية والقانونية,ومن حق الشعب أن يطيح بحكومة تصر علي مخالفة الإرادة العامة.
الدين في رأي روسو, لا غني عنه للفضيلة,وما قامت دولة بدون أساس ديني,إلا أن رجال الدين لا يجب أن يكونوا فوق قوانين الدولة, حتي لا ينقسم ولاء الوطن,الدين يجب أن يركز علي الإيمان والقيم, وفي نفس الوقت يمجد العقد الاجتماعي والقوانين الصادرة عنه,وهو يتسامح مع الأديان التي تتسامح مع غيرها,ومن يقول لا يوجد خلاص خارج الكنيسة, يجب طرده من الدولة.
لسنا بحاجة إلي أن نعلق أهمية كبري علي الفروق بين المذاهب التي مزقت الأديان, فكلها خير إذا أحسنت السلوك وغذت الرجاء, ومن السخف أن نفترض أننا علي صواب وهم علي خطأ,فلو كان علي الأرض دين واحد صحيح; ولو حكم علي الباقي بالعقاب الأبدي, لكان إله ذلك الدين أظلم الطغاة وأقساهم.
وفي كتاب ##إميل## نري رأي روسو في التربية والتعليم للأطفال,فهو يرفض الطرق التي تعتمد علي الحفظ لأفكار بالية فاسدة,والتي تحاول جعل الطفل آلة طيعة في مجتمع منحل,وتمنع الطفل من التفكير والحكم بنفسه,وتشوهه فتهبط بمستوي قدراته إلي الحضيض,فالتعليم يجب أن يكون تجربة سعيدة للطفل, تنمي قدراته نحو حياة أفضل.
لم يخلق البشر لكي يتكدسوا مثل كثبان الرمل,لكن لكي ينتشروا في الأرض وليفلحوها,وكلما حشدوا معا فسدوا,المرض والرذيلة هما سمتان محتومتان للمدن المكتظة,شجعوا أولادكم علي حب الطبيعة والعيش في الخلاء وأكل ما يقومون بزرعه بأنفسهم, والابتعاد عن اللحوم,والاستيقاظ المبكر والنوم المبكر,وكتابه ##إميل##, يعتبر أمتع كتاب ألف في التربية علي الإطلاق.
لم يمض عشرون يوما علي نشر كتاب ##إميل## في هولندة, حتي حكم عليه برلمان باريس بالحرق,وحكم علي مؤلفه بالسجن عام 1762, ففر روسو إلي سويسرا بلد الحرية, لكن بعد أربعة أيام من قدومه, حكم مجلس مدينة جنيف بمصادرة كتابين له, وفي عام 1764, قذف الفلاحون بيته بالحجارة.
في عام 1766 ذهب روسو إلي إنجلترا, فاستقبله دافيد هيوم الفيلسوف البريطاني, وأسكنه بالقرب من العاصمة لكي يكمل كتابه ##اعترافاتي##, لكنه بدأت تعتريه نوبات عصبية وهواجس,وبدأ يتشاجر مع كل من حوله فقرر عام 1767 العوده إلي فرنسا ضيفا علي الماركيز ميرابو.
ساءت حالة روسو الصحية بعد عودته إلي باريس, وفي عام 1778 داهمته الوفاة فجأة بسبب مضاعفات مرض التهاب المرارة الذي كان يلازمه طوال حياته وفي عام 1794 قررت الحكومة الفرنسية نقل رفات روسو في احتفال كبير إلي البانثيون حيث كانت رفات فولتير قد سبقته منذ ثلاثة أعوام.
[email protected]