من الضروري لأية جماعة من المثقفين أن تعيد النظر في مفهومين أساسيين,وهما التنوير وحقوق الإنسان. والغاية من إعادة النظر هو تأويل هذين المفهومين في ضوء رؤية مستقبلية محكومة بمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية ومتجاوزة إياها في الوقت نفسه. وغاية هذا المقال هي وضع هذين المفهومين وتأويلاتهما الجديدة في إطار التسويات السلمية في الشرق الأوسط.
أوضح فأقول أنني أري البدء بفحص مفهوم حقوق الإنسان وذلك بإثارة السؤال الآتي:ما التغيرات الكوكبية التي بزغت في العشرين سنة الماضية والتي تلزمنا بإعادة النظر في مبادئ حقوق الإنسان؟
ينبغي, في البداية, التنوية بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة والمكون من ثلاثين مادة تشمل الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
تقر المادة الأولي والثانية أن البشر يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق وليس ثمة تمييز بينهم بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو التباين في الآراء السياسية أو القومية أو الاجتماعية أو بسبب الملكية أو المولد.
وفي هاتين المادتين ثمة مسألة مهمة وهي ذكر لفظين وهماالدين والملكية. والمقصود بالملكية امتلاك الأرض أو المصنع.كان هذا هو المعني التقليدي لهذين اللفظين.أما اليوم فقد أدخلت الأصوليات الدينية معاني جديدة عليهما من خلال مفهوم الحقيقة المطلقة.
من أجل توضيح مفهوم الحقيقة المطلقة يلزم تحديد لفظدوجما وهو لفظ يوناني مشتق من الفعل الذي يعنييبدو خيرا في نظر شخص أو في نظر عدة أشخاص, ولكنه في العصور المسيحية الأولي كان يعني فكرة مقبولة من المجتمع أو قرارا من سلطة عليا مثل دوجمات المدرسة الرواقية في الفلسفة, وقوانين مجلس الشيوخ الروماني, ثم قوانين الأباطرة وقوانين السلطات الدينية.
وتأسيسا علي ذلك فإن لفظ مطلق مرتبط ارتباطا عضويا بالدوجما أو بالأدق بالدوجما الدينية ويشتق منها, ومن ثم يزعم الأصوليون أو الدوجما طيقيون الجدد أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة الكامنة في معتقدهم. وبهذا المعني يمكن أن نطلق علي هؤلاء الدوجماطيقيين أنهمملاك الحقيقة المطلقة علي حد تعبير د.مراد وهبة في كتابه الشهيرملاك الحقيقة المطلقة.
إن ملاك الحقيقة المطلقة يستندون إلي الفرض القائل بأن العقل قادر علي اقتناص الحقيقة المطلقة لأن الحقيقة ذات طابع ديني, ومن ثم فإنها ذات طابع حرفي فلا تقبل التأويل.
والمطلوب الآن تأسيس نظرية للمعرفة مضادة لنظرية المعرفة الخاصة بملاك الحقيقة المطلقة. وتستند نظرية المعرفة المغايرة لنظرية ملاك الحقيقة المطلقة إلي مبدأ التأويل لأن التأويل يعني في الأساس, الفحص الحر العقلي للنصوص الدينية, وبالتالي تصبح الحقيقة نسبية وليست مطلقة.
والسؤال إذن:إلي أي مدي يكون من المشروع إعمال العقل في نص ينظر إليه علي أنه مطلق, أي بمعني مجاوزة الزمان والمكان؟ إذا عرضنا النص للعقل الإنساني فإن مطلقية المطلق تصبح مهددة. وإذا لم نعرضه نفقد مزية أن نكون بشرا, أي حيوانات عاقلة. وفي هذا الإطار ينبغي التفرقة بين حقوق الإنسان من حيث هو إنسان, وحقوق الإنسان من حيث هو دوجما طيقي يعتقد أنه مالك للحقيقة المطلقة وبالتالي ينفي الآخر الذي لا يعتقد في حقيقته المطلقة.
إن الإنسان من حيث هو دوجما طيقي هو الإنسان الذي يستمد أفكاره من سلطة خارجية وليس من اقتناع عقلي جواني. وبهذا المعني فإن الدوجما طيقي هو بالضرورة ضد التنوير لأن فلاسفة التنوير هم الذين وضحوا مفهوم الدوجما طيقية وأهمهم الفيلسوف الألماني كانط الذي قال بأن الدوجما طيقية ضد التنوير لأن التنوير عنده يعنيخروج الإنسان من حالة عدم إعمال العقل.
وهنا أثير سؤالا حاسما وهو: كيف نحول الجماعة الثقافية من ثقافة الدوجما طيقية, التي تفرز بدورها العنف الدوجما طيقي الذي يصل إلي حد الإرهاب المسلح, إلي ثقافة اللادوجما طيقية التي هي أساس ثقافة السلام؟
ويمكن تعريف اللادوجما طيقية بأنها نفي للدوجما,بمعني نفي علم اللاهوت المستند إلي امتلاك العقل للحقيقة المطلقة التي بدورها تفرز العنف ضد العالم الخارجي. ومن هذه الزاوية فإن اللادوجما طيقية خطوة ضرورية ناشئة من نفي التعصب والجمود العقلي, وهذا النفي ينشد تحويل أساليب الفكر المطلق إلي أساليب نسبية. بيد أن تحقيق هذه الغاية يستلزم مراجعة أساليب الفكر الديني الذي يتجه نحو مطلقة كل ما هو نسبي. وحيث إن أشكال الإيمان الديني متعددة فالصراع أو بالأدق الحرب, أمر لازم وضروري…وحيث إن الحروب الحديثة تستعين بالأسلحة النووية فالسلام مهدد إلي الحد الذي يمكن أن تنتهي فيه البشرية.
والسؤال إذن:كيف يمكن تحقيق اللادوجما طيقية في الشرق الأوسط؟في تقديري أن ثمة طريقين:الأول هو أن نكون اللادوجما طيقية هي حجر الأساس لحركة تنوير جديدة تدعو إلي بث فلسفة التأويل في الأيان الثلاثة في الشرق الأوسط وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد أنجزت المسيحية حركتين تاريخيتين: حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر, وحركة التنوير في القرن الثامن عشر.
وينبغي تبني هاتين الحركتين بما يتلاءم مع البيئة الثقافية للشرق الأوسط المحكومة بالمحرمات الثقافية. وفي الإسلام كان الفيلسوف ابن رشد هو رائد التأويل في القرن الثاني عشر فقد أدخل فلسفة التأويل للنص الديني كبديل لعلم الكلام. بيد أن هذه الفلسفة أجهضت عندما أحرقت مؤلفات ابن رشد وتم نفيه في بلدته ليقضي فيها بقية عمره.كل هذا بسبب مؤامرات علماء الكلام التي أفضت إلي قرار الخليفة بحرق كتبه ونفيه.أما في اليهودية فقد حاول موسي بن ميمون, تلميذ ابن رشد, أن يسير في طريق أستاذه وقد حالفه النجاح إلي حد بعيد عندما كتب ما يعرف بـالمشناه وهي محاولة لفلسفة التوراة بمنهج عقلي, وقد أصبحت جزءا من التراث الديني اليهودي إلي جانب التوراة والتلمود.
هذا عن الطريق الأول. أما الطريق الثاني لبث روح اللادوجما طيقية فهو التعليم, أو بالأدق التعليم الإبداعي, إذ هو حق أساسي من حقوق الإنسان لأنه أصل الحضارة التي أبدعها الإنسان من خلال إعمال عقله في الطبيعة.
وكل هذا في إطار تأسيس حركة تنوير جديدة تستند إلي الفكر الناقد والمبدع من منظور فلسفي يحرر العقل من المحرمات الثقافية التي تعوق نمو المجتمعات في الشرق الأوسط وتمنعها من أن تكون مكافئة للمجتمعات الغربية وتحولها إلي مجرد مستهلكة للمعرفة التي ينتجها الغرب.وتنشد حركة التنوير الجديدة تحويل هؤلاء المستهلكين للمعرفة إلي منتجين لها من أجل إثراء الحضارة الإنسانية.
والغاية الحضارية من حركة التنوير هي علمنة التراث الثقافي وذلك بإخضاعه للتأويل من أجل اجتثاث كل ما هو لا عقلاني في تلك الثقافات وعقلنتها من خلال الكشف عن جذور المعتقدات في الواقع الثقافي الاجتماعي الذي أفرزها. ومن ثم تحويل هذه المعتقدات المطلقة الكامنة فيما يعرف بالتراث القومي إلي معرفة نسبية.
والتفكير الناقد هو وسيلة التأويل لأنه مضاد للدوجما طيقية التي تلح علي التمسك بالمعتقدات القائمة وبالتالي ترفض أية معرفة جديدة بدعوي أنها تناقض القديم, ثم أن التفكير الناقد يكشف عن جذور الأشياء والظواهر. وحيث إن الفكر الأسطوري هو الملمح الرئيسي للمعرفة القديمة-فإن التحليل العقلاني لجذور الفكر الأسطوري هو بمثابة التدريب علي التفكير الناقد. ومعني ذلك أنه لا ينبغي تناول الفكر الأسطوري من حيث هو كذلك وإنما ينبغي التركيز علي الملامح الرمزية الكامنة في الفكر الأسطوري والتي تشير إلي ما يختفي وراء الأسطورة.وهنا يكون لمنهج ديكارت دلالة متميزة في مجاوزة الدوجما طيقية التي تستند إلي تصورات أسطورية لاعقلانية.
ومن هذه الزاوية يلزم مراجعة التيارات التقليدية في نظرية المعرفة والتي تركز علي العلاقة بين المعرفة والحقيقة ذلك أن العلاقة ينبغي أن تكون بين العقل والواقع وليس بين العقل والحقيقة.
وفي اطار هذه العلاقة فإنه يمتنع الوقوع في براثن الدوجما طيقية لأن الدوجما طيقية تعني توهم امتلاك الحقيقة المطلقة.وعندما نحذف الحقيقة فنحن نحذف في الوقت نفسه الدوجماطيقية. وفي هذا الإطار ينبغي مراجعة المفهوم التقليدي لحقوق الإنسان الذي ينص علي أن كل إنسان له نفس الحقوق بغض النظر عن الدين والجنس والعنصر.
بيد أن ثمة سؤالا لابد أن يثار:
كيف يمكن أن نسمح للدوجما طيقي أن يكون له نفس الحقوق الإنسانية في حين أنه ينفي هذه الحقوق عن أولئك الذين لا يدينون بدينه أو يدينون بدينه ويخالفونه في الرأي, إلي الحد الذي يصل فيه إلي إرهابهم بدعوي أنهم مهددون لدينه أو بالأدق لمطلقه؟ وإذا كانت الدوجما طيقية مهيمنة في القرن الواحد والعشرين فمعني ذلك أن الإرهاب مهدد لحقوق الإنسان ولذلك ينبغي أن تكون هذه الحقوق مقصورة علي أولئك الذي ليسوا دوجما طيقيين. ومن ثم يلزم أن ندعو إلي اللادوجما طيقية حتي يبرأ الدوجما طيقيون من الدوجما طيقية.