منذ الوهلة الأولي لفت أنظارنا هدوء مدينة جنيف السويسرية وجمالها الخلاب, وجذبت عقولنا وفضولنا الأعلام التي ترفرف فوق مقر الأمم المتحدة حيث شاركنا في حضور اجتماعات الدورة الحادية عــشرة للمجلس الدولي لحقوق الإنسان . بهرتنا قاعته العظيمة , ولفت انتباهنا الكم الهائل من التقارير المتراصة في مدخل القاعة والصادرة عن المقررين الخاصين للأمم المتحدة , هؤلاء الذين تطوعوا في العمل غير الحكومي في بلادهم ثم وقع عليهم الاختيار ليتولوا تقديم تقرير في مجال ما عن كافة الدول في العالم أمام المجلس , مثل تقارير الحق في الصحة والحق في التعليم والحق في حرية الرأي والتعبير …..إلخ . عددهم 30 مقررا يرصدون انتهاكات حقوق الإنسان في العالم ويقدمون عنها تقارير أمام المجلس , الذي كنت أعتقد حتي لحظة مشاركتي في أعماله أنه يملك أدوات الضغط علي الدول المنتهكة للحقوق , لكن اكتشفت أن المجلس بل والأمم المتحدة بكل آلياتها ما هي إلا أداة لإثبات الانتهاك علي الدولة التي ارتكبته دون أي التزام قانوني أو عقوبة تكفل عدم تكرار الانتهاك , وتلك كانت الصدمة الأولي في رحلة جنيف التي استمرت قرابة الشهر للتدريب علي آليات مجلس حقوق الإنسان,والتي ضمت نحو ثلاثين من نشطاء حقوق الإنسان والصحفيين العاملين في هذا المجال,من عدد من الدول العربية.
وتوالت الصدمات عندما حضرنا جلسات الدورة الحادية عشرة فلم تكن بجلسات وإنما حلبات صراع سياسي وتصفية حسابات ,وتكتلات تأخذ قراراتها مسبقا علي الموائد الجانبية فهناك التكتل العربي وأيضا التكتل الأفريقي وجميعها تكتلات دولية وتحالفات غير مرئية لكنها محسوسة , فالممثلون هم ممثلو حكومات وليسوا ممثلي المجتمع المدني , غلب هذا الطابع خاصة علي الوفود العربية التي لم يحضر منها إلا الدبلوماسيون الحكوميون بينما غاب المجتمع المدني وغاب الإعلام المرافق ,وعليه فكل المبعوثين يتلقون تعليماتهم من عواصم الدول التي أتوا منها ,وتلك مفاجأة أخري, فالمجلس العالمي لحقوق الإنسان مجلس حكومي … ليس معقول أن تدين الحكومات ذاتها,حتي وأن أدانها المجتمع المدني وأن أدانها المجلس فلا التزام عليها ولا إلزام .
وهو الأمر الذي دعا نزار عبد القادر المدير التنفيذي لمعهد جنيف لحقوق الإنسان للقول بإن منظومة الأمم المتحدة تحتاج لإصلاح شامل وأطلق عليها اسم ## الحكومات المتحدة ##وليس ##الأمم المتحدة ## مؤكدا أن تطوير الأمم المتحدة لتكون معبرا حقيقيا عن هموم الشعوب يحتاج عملا جبارا من كل فئات المجتمع الدولي سواء منظمات وطنية أو حكومية أو مجتمع مدني.
في أولي جلسات الدورة كان علي المقرر الخاص بحرية الرأي والتعبير ## فرانك لا رو ## عرض تقريره عن العالم في 2008 باعتبار هذا الحق أحد الأسس الضرورية لإقامة مجتمع ديمقراطي , عندما عرض لا رو تقريره قائلا ##إن الصكوك الدولية تحظر بالقانون أية دعاية أو دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا علي التمييز أو العداوة أو العنف…… وكثيرا ما استخدمت الحكومات القيود كوسيلة لتقييد الانتقاد وإسكات المنشقين ـ من وجهة نظرها ـ رغم أن إزالة التوترات القائمة علي اختلافات ثقافية أو دينية لا يمكن تحقيقها بقمع التعبير عن أوجه الاختلاف وإنما من خلال المناقشة المفتوحة ## وافقت معظم الدول علي تقريرلارو بينما رفض البعض ومنهم ممثل المجموعة الأفريقية الدبلوماسي عمرو رشدي الحاضر عن مصر والذي وجه انتقادات للتقرير.
وفي اليوم التالي أصدرت الخارجية المصرية بيانا ترفض ما قاله عمرو رشدي في المجلس!!عندما علمت بذلك تعجبت جدا لماذا نختار ممثلين غير مؤمنين بكافة الحقوق ويندفعون للتعبير عن توجهاتهم وميولهم , ثم نضطر بعد ذلك لإصدار بيانات تبرئة للدولة مما فعلوه أهؤلاء هم ممثلو حقوق الإنسان في المجلس العالمي للحقوق؟ !!!!
و لكن الملاحظة الأوقع هي :أن مصر حتي الآن لم تسمح للمقرر الخاص بحرية الاعتقاد بزيارتها ولم ترد علي طلبه منذ عامين وهو ما لا يجد تفسيرا مقبولا أمام الجميع ورغم ذلك لا تملك الأمم المتحدة ولا المجلس العالمي لحقوق الإنسان سلطة إجبار مصر علي فتح أبوابها أمام أي مقرر خاص , وكما يقول المتابعون لآليات المجلس في جنيف ## في المجلس لا توجد سياسة العصا لمن عصي ## , فإذا أضفنا إلي ذلك أن مصر لم تقدم تقريرا واحدا عن حالة حقوق الإنسان فيها منذ إنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان والذي تعدي عمره أربع سنوات , سنجد الأمر جليا لا يحتاج تفسير .
والمفوضية أيضا
كان ضمن البرنامج التدريبي الذي اجتزناه حضور اجتماعات لجنة الطفل لمناقشة تقرير سلطنة عمان عن حالة حقوق الطفل فيها ,حيث يتقدم الخبراء من كل الدول لمناقشة الوفد الحكومي العماني فيما فعلت عمان خلال عام في أوضاع الطفولة هناك , ودار ت تساؤلاتهم حول أوضاع الأطفال المستغلين كخدم في المنازل والأطفال المستغلين جنسيا والأطفال غير الشرعيين والأطفال المستغلين فيما يطلق عليه سباق الهجن بما يتنافي مع حقوقهم في التعليم والرعاية الصحية والحياة الطبيعية إذ يربطونهم فوق ظهو الهجن لساعات طويلة حتي تتيبس أعضاؤهم التناسلية وتتقوس أعمدتهم الفقرية. وهذا الموضوع تحديدا تحدثت عنه مشيرة خطاب وزيرة الأسرة والسكان كأحد خبراء لجنة الطفل في المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
هنا تلقينا الصفعة الكبري فالوفد العماني الحكومي كل ما يهمه إزالة الوصمة عنه وليس من المستغرب علي بلد عربي انتهكت فيه حقوق الطفل أن يظل أعضاء الوفد يلقون بالأسئلة إلي بعضهم البعض ولا يقدمون إجابات وافية للخبراء القادمين من مختلف دول العالم , ناهيك عن الردود الضعيفة , وغيرها من سبل درء التهم بدلا من مواجهة الأمر لإرساء الحقوق المنتهكة حتي إن أحد الخبراء قال : ## الوفد العماني يدافع عن شكل وطنه لكنه لا يحاول إيجاد حلول لواقعه ##.هكذا تتعامل الحكومات خاصة العربية منها مع أحوال حقوق الإنسان في أراضيها..حقا إنها الحكومات المتحدة وليس الأمم المتحدة.
دارت رؤوسنا نحن المشاركين في تدريب جنيف وألح سؤال عنيف كان رجعا لصدي صدمة اللا فعل للأمم المتحدة , ووجهناه جميعا لكل من التقينا بهم من العاملين فيها أو في المجلس ## لماذا إذا الأمم المتحدة إذا لم تكن هناك التزامات علي الدول المنتهكة للحقوق ؟ ! فكان رد عبد الوهاب الهاني (ليبقي حوار الدول كسبيل أخير للضغط علي الدول المنتهكة للحقوق و مجلس الأمن الجهة الوحيدة التي تملك الية ملزمة في كل جهات الأمم المتحدة ) وعندما علق الهاني علي مصر قال : أتعلمون من أين يعرف مقررو الأمم المتحدة أوضاع الحقوق في مصر إنهم يعرفونها من دول الحدود فمصر أبوابها مغلقة أمام المراقبين تماما .
هنا بدت لنا مهمة المقرر الخاص جلية فهو الترس المحوري في رصد حالة حقوقية ما في بلد وكاشف النقاب عن كل ما ترتكبه الدول في حق مواطنيها أو حتي ما تصمت عن ارتكابه من فئة تجاه فئة دون اتخاذ موقف جاد محايد , وهنا كان علينا الخروج من آلية الحكومات المتحدة لنتعرف علي الجنود المجهولين ( المقررين الخاصين ) ولكن كيف يستقي المقرر – ذاك البطل المتطوع الذي يجوب بلدان العالم راصدا الحق والتعدي علي الحق _ معلوماته ؟ عندما التقينا و ##ياكينا تورك ##المقررة الخاصة بحقوق المرأة في العالم والذي تزامن اللقاء معها مع انتهاء فترة ولايتها , كان لديها الرد الوافي عن هذا السؤال في أحد اللقاءات التي أجريناها معها اذ قالت : ## نحن نستقي معلوماتنا من منظمات المجتمع المدني واللقاءات مع الناشطين والذين يوفرون لنا التقارير والإحصائيات ونحن نرفع توصياتهم للأمم المتحدة لكن في النهاية لا توجد سلطة ملزمة لتنفيذ تلك التوصيات إنها حلقة نضال لابد من مواصلتها حتي لو لم تكن هناك سلطة ## فالأمر يصب في النهاية في تطور حركة حقوق الإنسان عالميا عن ذي قبل وأنا هنا أتحدث تحديدا عن حقوق المرأة ,ولكن تبقي المشكلة التي تزداد تعقيدا في العالم العربي فالتطور هناك بطئ للغاية بسبب النهج المحافظ والسلطات الشمولية .
لم تكن ياكينا تورك المقررة الوحيدة التي التقينا بها بل دفعنا فرط اعجابنا بهؤلاء المقررين للبحث عنهم أينما وجدوا وساعدنا القائمون علي التدريب والتابعون لمؤسسةفريدوم هاوس الأمريكية في هذا فالتقينا أيضا ##سيما سمر ## الباكستانية المسئولة عن حالة حقوق الإنسان في السودان والتي طلب الكثيرون إنهاء فترة ولايتها أي مراقبتها للوضع الحقوقي بالسودان بعدما كشفت عما يجري من انتهاكات خطيرة في دارفور و روت سمر تجربتها في السودان قائلة : ## بعد اتفاقية أبوجا للسلام زاد العنف والضحايا في دارفور وأصبح هناك آلاف الأطفال المفقودين والمستغلين من قبل حركة العدل والمساواة كجنود صغار , وتضاعفت الأعمال الخطيرة ضد الحقوق مع الضغط الحكومي علي الإعلام السوداني الذي تتم متابعته ورقابته للتيقن من عدم المساس بأي شيء حكومي , ولا يقف الأمر عند هذا الحد فأنا لا أستطيع وصف الوضع المتردي الذي أصاب المدنيين في جنوب السودان إذ أن ألفا منهم قتلوا في عام واحد في اقتتال القبائل دون أدني عقاب للمنتهكين ففي السودان المعارضة والحكومة كلاهما يقومان بانتهاكات لحقوق الإنسان والحكومة السودانية تنتقدني وتود إنهاء ولايتي وتساندها بعض الدول الاخري,لكن لن يغير ذلك من الأمر شيئا فأنا لا مصلحة لي في كتابة تقرير معد سلفا عن الحالة هناك , ولست عضوا في شراكة ما وليس لي أية مصالح فأولويتي الوحيدة حماية حقوق الناس ##.
هكذا تحدثت سمر إلينا لكن يبدو أن الأمر ما زال حكوميا جدا واللوبي غير المرئي يعمل جاهدا ضد الحقوق في مجلس الحقوق إذ أننا فوجئنا بصراع حاد في الجلسة الختامية للمجلس حول مد ولاية سيما سمر كمقررة للسودان أو إلغاء صفة المقرر الخاص بالسوادن نهائيا وبالفعل تم الغاء منصب مقرر الأمم المتحدة عن أوضاع حقوق الإنسان بالسودان وذلك بعد سجال عنيف دار في الاجتماع الختامي للدورة الحادية عشر للمجلس , علما بأن هذا المنصب يعطي لصاحبه الحق في زيارة الدولة وتقديم تقرير تفصيلي خاص عن الأوضاع فيه ولا يوجد مقررون خاصون بالدول في الأمم المتحدة إلا لثماني دول فقط هي التي تتعرض حالة حقوق الإنسان فيها لانتهاكات ثابتة ومستمرة وممنهجة _ حسب وصف المجلس _ وبناء علي ذلك وافقت مصر بوصفها المنسق لمصالح المجموعة الأفريقية هناك علي استبدال هذا المنصب بمنصب الخبير الدولي المستقل بموافقة 20دولة من 47 هىأعضاء المجلس وامتنعت 9 دول عن التصويت ورفضت 18 دولة هذا القرار,لكن قوة التحالفات التي ذكرناها سابقا كادت تحدث زلزالا يرج أرجاء قاعة الأمم المتحدة في تلك الجلسة الساخنة التي اختتم بها المجلس أعمال دورته الحادية عشرة واختتمنا نحن آخر صدماتنا في كواليس المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف.