يبدو أن وقف الفلسطينيين للمفاوضات مع إسرائيل طوال الشهور الماضية دون أن يتم ملء الفراغ ببديل وطني,أصبح أسوأ من وجود المفاوضات ,أيضا عندما تستمر الأمور علي حالها بل وتزداد سوءا سواء كانت مفاوضات مع إسرائيل أو توقفت ,فهذا معناه أن المشكلة لاتكمن بالمفاوضات بحد ذاتها, ولا بمشروع السلام الفلسطيني, بل في رغبة القوي النافذة في المنطقة بالحفاظ علي حالة أللا حرب وأللا سلم,وهي حالة يعززها رفض إسرائيل لمبدأ السلام العادل وغياب التوافق الوطني الفلسطيني حول مشروع السلام الفلسطيني وغياب البدائل الواقعية لهذا المشروع.
لم يعد مجالا للشك أن الرئيس أبو مازن ونهجه الواقعي العقلاني في مأزق كما أن حل الصراع في الشرق الأوسط علي أسس واقعية وعقلانية يزداد إستعصاء ,ليس لخطأ في رؤية الرئيس أبو مازن بل لأن أطراف الصراع وخصوصا إسرائيل المدججة بأيديولوجيا الدين والتاريخ الأسطوري وبقوتها العسكرية وتحالفاتها الدولية.لاتؤمن بالسلام وغير مهيأة لدفع استحقاقاته والإيديولوجيات عندها أهم من العقل والمنطق ومن الشرعية الدولية واستحقاقاتها.الدول والأحزاب المؤدلجة وخصوصا إن كانت أيديولوجيا دينية تستمد مبرر وجودها من استمرار الصراع وليس في حله سلميا فالحل السلمي للصراع الذي يقوم علي أساس الاعتراف المتبادل وسياسة الالتقاء وسط الطريق يتعارض مع منطق وجودها ومن هنا فالواقعيون والعقلانيون في منطقة الشرق الأوسط يعيشون مأزقا لايحسدون عليه.
نهج الرئيس أبو مازن السلمي واكب مسيرته السياسية كأحد قيادات حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية فهو أول من طالب بفتح قنوات اتصال مع اليهود غير الصهاينة في بداية السبعينيات وكان وراء الاتصال مع إسرائيليين تحت عنوانيهودية غير صهيونيةمن خلال مندوبين عنه كعصام السرطاوي الذي تم اغتياله بأياد فلسطينية,والرئيس أبو مازن كان وراء التغيير في هدف وإستراتيجية النضال الفلسطيني فبصماته كانت واضحة في رفع شعار أو هدف الدولة الفلسطينية الديموقراطية علي كامل التراب الفلسطيني وتثبيته في مقررات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1971,وكانت بصماته واضحة من التحول في الاستراتيجية منالكفاح المسلح الطريق الوحيد لتحرير فلسطينإلي المزج ما بين الكفاح المسلح والعمل السياسي-وهو ما قال به قبل أيام السيد خالد مشعل-هذا النهج السلمي تكرس وتجسد رسميا وواقعيا في اتفاقات أوسلو1993 حيث يعتبر أبو مازن مهندس هذا الاتفاق.
كل ما صدر عن الرئيس أبو مازن بعد أوسلو من مواقف وتصريحات وخصوصا عندما كان رئيس وزراء ثم رئيسا للسلطة والمنظمة, كان تعبيرا عن استمرار نهجة وحديثه عن الصواريخ العبثية-وهو ما اعترفت به حركة حماس لاحقا بل ووسمت مطلقي الصواريخ بما هو أسوأ من العبثية-وسعيه لإدماج حركة حماس في النظام السياسي عن طريق الانتخابات بل واستعداده بعد تولية الرئاسة عام 2005 لمواجهة أطراف من حركة فتح لصالح استمالة حركة حماس واستقطابها ضمن نهج السلام…كل ذلك كان تعبيرا عن قوة إيمانه بالسلام والتسوية السلمية إلا أن هذه الواقعية والعقلانية جاءت في زمن شرق أوسطي وعربي تحكمه الأيديولوجيات المقادة بأساطير التاريخ ودوغما الأيديولوجيا,مما جعل نهج أبو مازن إما غير مفهوم من البعض أو متهم بالسذاجة من آخرين بل ويذهب البعض لاتهامه بالتواطؤ.
يبدو أن هذه المسيرة الطويلة من المراهنة علي التسوية السلمية وعلي المفاوضات كآلية لتحقيقها وحتي بعد ثماني عشرة سنة من المفاوضات التي لم تثمر سوي مزيد من إهدار الأرض والحق لم تغير من رؤية الرئيس أبو مازن صحيح إنه أوقف المفاوضات عندما اكتشف أنها مضيعة للوقت وتسير بدون مرجعية وتستغلها إسرائيل لمزيد من الاستيطان ولكنه لم يتراجع عن نهج التسوية السلمية. عندما كانت مفاوضات كانت الانتقادات توجه للرئيس أبو مازن وتسم المفاوضات بالعبثية وأنها مضرة بالمصلحة الوطنية. لم تكن الانتقادات والاتهامات من طرف حركة حماس والجهاد الإسلامي فقط بل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي يفترض أن أبو مازن رئيسها بل إن السلطة الفلسطينية التي يترأسها أبو مازن أصبحت محكومة ومسيرة لنهج الدول المانحة وهو نهج يتوافق مع سياسة أللا حرب وأللا سلم. وكانت الانتقادات من خارج البيت الفلسطيني حتي من دول عربية قالت بالسلام كخيار إستراتيجي وطرحت مبادرة عربية للسلام.
اليوم وبالرغم من وقف المفاوضات لايبدو أن الوضع الفلسطيني أصبح أفضل حالا كما أن المفاوضات لم تغير من موقف القوي المنتقدة للرئيس بالرغم أن القوي الفلسطينية المنتقدة للرئيس ونهجه أوقفت المقاومة التي يفترض أن تكون البديل عن نهج المفاوضات وتملأ فراغ وقفها بل وتسير الأمور نحو تحويل الحدود ما بين قطاع غزة وإسرائيل كالحدود العربية مع إسرائيل ,والدول والقوي العربية المنتقدة أو المتحفظة علي نهج الرئيس لم تتخل عن المبادرة العربية للسلام ولم تستنفر جيوشها أو توظف إمكاناتها لدعم بدائل غير المفاوضات والتسوية السلمية ,هذه الحالة جعلت وقف المفاوضات مع إسرائيل يشكل مأزقا ليس فقط للرئيس أبو مازن ولخيار السلام بل وللقضية الفلسطينية برمتها.
بعد أن أوقف الرئيس أبو مازن المفاوضات مصرا علي الموقف الفلسطيني بوقف الاستيطان وتحديد مرجعية للمفاوضات وبالاعتراف بحدود الدولة الفلسطينية علي كامل الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية ,قام بتحرك سياسي عربي وإسلامي ودولي واسع مستكشفا ومتطلعا لمواقف تقدر خطوته وتدعمها وتنيره لبدائل غير العودة لطاولة المفاوضات حسب الشروط الإسرائيلية يبدو أن الرئيس لم يجد إلا الصد أو كلمات مجاملة والأسوأ من ذلك أن دولا نافذة طالبته بالعودة لطاولة المفاوضات بدون شروط مع أن ما يطالب به الرئيس ليس شروطا بل تنفيذ التزامات سابقة-منذرة بعواقب وقف المفاوضات ولم يكن الحراك الرسمي العربي الأخير دعما للرئيس أبو مازن كما توهم البعض وروج آخرون بل كان تمهيدا للطريق لمبادرة أمريكية جديدة تلتف علي المطالب الفلسطينية المشروعة.
لايمكننا الدفاع عن الفريق الفلسطيني المفاوض فقد أدار المفاوضات بشكل سييء ولسنا في وارد رفض أية بدائل أخري للتسوية السلمية إن كانت بدائل واقعية بما فيها كل أشكال المقاومة ولكن السؤال لماذا هذا الرفض المطلق لنهج السلام وللمفاوضات دون وجود بديل واقعي وعقلاني؟
نعتقد إن المعارضين لنهج التسوية وللمفاوضات لايعارضون اعتمادا علي وجود بدائل لهذا النهج بل لاعتقادهم بأن الواقع الدولي والإقليمي والعربي وموازين القوي بالإضافة للوضع الفلسطيني الداخلي لا يسمحون بأي حل أو إنهاء للصراع في المنطقة سواء بالتسوية السلمية أو من خلال العمل العسكري وبالتالي يعتقدون أن سياسة اللأحزاب وأللا سلم هي الإستراتيجية الأفضل في هذه المرحلة والأمر ينطبق علي الدول العربية كما ينطبق علي حركة حماس.
الدول العربية تقول بأنها تريد الحل السلمي وقد تبنت السلام كإستراتيجية من خلال المبادرة العربية ولكنها لم تفعل أي شيء للتأثير في مجريات الأحداث لفرض رؤيتها للسلام ولا تملك البديل للحل السلمي-الحرب-أو تهدد به ولو كخيار مستقبلي وبالتالي تجد في حالة اللا حرب واللا سلم مخرجا مريحا لها.نفس الأمر ينطبق علي حركة حماس ,حيث لاتريد سلاما يقوم علي حل الدولتين لأن هذا السلام يعني الاعتراف بإسرائيل وأيديولوجية حماس ومشروعها الإسلامي لايسمح ان لها بأن تكون طرفا بهذا الحل ولن تستفيد منه إن تحقق وهي في نفس الوقت تعلم بأن المقاومة المسلحة لن تهزم إسرائيل أو تفرض عليها حلا مشرفا للفلسطينيين ومن هنا فحركة حماس أيضا مع سياسة اللاحزاب واللا سلم.
اللا حرب واللا سلم نهج متبع في السياسة الدولية ولكن هذا النجاح مرتهن بتحقيق مصلحة مشتركة لطرفي المعادلة حيث يوظف كل طرف هذه الحالة لحشد قواه لكسرها في الوقت المناسب له إما بالحرب أو بالسلم ولكن تطبيق هذا النهج في حالة الصراع مع إسرائيل سيكون مضرا للشعب الفلسطيني,لأن إسرائيل توظف حالة اللا حرب واللا سلم لتعزيز قوتها والتوسع بالاستيطان وتدمير البنية التحتية للفلسطينيين ,كل مقومات صمودهم,يقابل ذلك مزيدا من الانقسام والضعف الفلسطيني والعربي.سياسة اللا حرب واللا سلم تخدم إسرائيل والدول العربية ومحاور إقليمية ولكنها لاتخدم القضية الوطنية الفلسطينية,ومن هنا فإن كسر هذه الحالة بإستراتيجية سلام فلسطيني محل إجماع وطني معضدة بكل أشكال المقاومة هو النهج الذي علي الفلسطينيين اتباعه وهذا ما يتطلب تنازلات من طرفي المعادلة الفلسطينية بمن في ذلك الرئيس أبو مازن ففي السياسة وخصوصا لمن يقود شعبا,لايجوز التمترس حول موقف والقول بأنني علي صواب والعالم كله علي خطأ لايعني هذا التنازل عن المباديء بل إعادة النظر بالمواقف والتحالفات والسياسات المتبعة.