كان وزير خارجية المانيا محقا في قوله: ##لو أن هناك جائزة عالمية لمن يؤمنون بنظرية المؤامرة لفازت مصر والمصريون بها. فلو أن هناك ترتيبا للدول فيما يتعلق بنظرية المؤامرة ربما ستتصدر مصر رأس القائمة.
منذ عقود طويلة ونحن نصبح ونمسي ولا نفكر إلا في نظرية المؤامرة, ومنذ ثورة 25 يناير ونحن نتغذي يوميا علي التنظير المؤامرتي, فكل شئ تقريبا يتأمر علينا, الغرب والصهيونية العالمية والماسونية الدولية والمجتمع المدني العالمي والعولمة والديموقراطية وحقوق الإنسان والمؤسسات الاقتصادية الدولية وحكومات الظل الماسونية, كل هؤلاء يتآمرون علي ديننا وثقافتنا وبلدنا واستقرارنا وثورتنا وجيشنا وأمننا, وهم الذين يبعثون بالعناصر المندسة وبالفوضي الخلاقة وبالأيادي الخفية وباللهو الخفي.
والسؤال لماذا يغرق المصريون في نظرية المؤامرة إلي هذا الحد؟.
في تقديري أن هناك عوامل كثيرة وراء هذا الهوس المؤامرتي عند المصريين نذكر منها:-
غياب المعلومات
هناك هامش حرية في الكلام موجود منذ سنوات, وكان نظام مبارك يعتبره نوعا من تنفيس الغليان عند المصريين,وإذا اضفنا إلي ذلك طبيعة الشخصية المصرية التي ترفض كلمة ##لا أعرف## وتحاول الفتوي في أمور كثيرة, كل هذا الكلام يتم في مناخ عام يتسم بندرة المعلومات الحقيقية وغياب الشفافية, ومع الرغبة الملحة في تفسير الأحداث, هنا يقع المتحدث أإما في خطيئة أختلاق معلومات غير صحيحة وترويجها أو تفسير الأحداث من خلال نسبها إلي قوي خفية تتآمر علي البلد
انتشار الأساطير
منذ أكثر من عقدين صدر في الولايات المتحدة كتاب بعنوان اليد الخفية.. مخاوف الشرق الأوسط من المؤامرات ومما جاء فيه, في عالم اليوم فإن العرب والإيرانيين أكثر شعوب العالم إيمانا بنظريات التآمر, وأشدهم حماسا في نشرها, وإلي حد ما, يرجع هذا إلي ثقافة هذه الشعوب, فكلا الشعبين لهما تراث أدبي غني بالخرافات ذات المعاني العميقة, ونظرياتهم التآمرية مليئة بالخيال, وهناك سبب وجيه أيضا يساعد علي خلق هذه النظريات التآمرية, فإيران وكل الدول العربية في قبضة قائد مطلق سواء كان علمانيا أو رجل دين, وهؤلاء يخضعون كل شيء لتحقيق أغراضهم وأهدافهم: التعليم, وسائل الإعلام, القانون, الجيش وغيرها من المؤسسات (…) وفي هذه المجتمعات لا يعلم بالحقائق الصحيحة إلا قلة صاحبة امتيازات, ويجعل الخوف والجهل الجماهير تحت رحمة الشائعات والخيالات, ولهذا يتخلي الناس عن مبادئ البحث العلمي المألوفة للتحقق من الأحداث ويلجأون إلي فكرة أن هناك قوي تعمل في الخفاء مما يفتح المجال للأساطير والخرافات التي تنبع من خيال الإنسان الواسع.
التفكير في التأمر
ففي دولة مثل مصر هنال يوجد من خمسة عشر جهازا أمنيا تخطط وتدبر لإحتواء المصريين, والسيطرة عليهم لصالح نظام الحكم, وهذه الأجهزة تشيع فكرة التآمر الخارجي حتي تستطيع تخويف الشعب من ناحية, وحتي تحول الأنظار إلي قوي خارجية من ناحية أخري, ومن ثم فأن الجزء الأكبر من نظريات التأمر والشائعات, خاصة في الجانب السياسي والطائفي, مصدرها هذه الأجهزة.
التخلف العام
ظاهرة التخلف العام الموجودة في مصر هي أساسا ظاهرة ثقافية وتعليمية وقيمية قبل أن تكون تنمية ودخل ومستوي معيشة, وجزء من هذا التخلف يتم تفسيره من خلال هذه المنظومة الثقافية والقيمية مما يدخلنا في عالم الغيب والتآمر والأساطير.وفي أوربا المظلمة في العصور الوسطي كانوا يفسرون البرق والصواعق والأعاصير والرياح بفعل الشيطان والسحر, وكانوا يشخصون الكثير من الأمراض علي أنها مس من الشيطان ومن أعمال الساحرات الشريرات, فهذا وضع طبيعي في ظل التخلف في تشخيص كثير من الأمور بقوي خفية غير مرئية, من ناحية أخري من مظاهر التخلف العجز عن إدراك الواقع وتشخيص الأسباب, ومن ثم يفسر التخلف ذاته بأنه نتيجة للتآمر لتتدحرج المجتمعات أكثر إلي الخلف.
أهل الثقة وأهل الخبرة
شيوع الشللية والقبلية في التفكير وتفضيل أهل الثقة علي الكفاءات, يحول المجتمعات إلي مسرح للدسائس والنميمة والوقيعة مما يخلق بيئة حاضنة لنظريات التآمر, وطاردة للكفاءات والعقول وللطبقات النفيسة في الشعوب.
إن انتشار فكر المؤامرة يظهر أصحاب الشعارات الرنانة علي أنهم وطنيون, في حين من يخطط لمجتمعه بمهارة وحنكة وهدوء يتهم بالعمالة والتواطؤ, وفي النهاية ينتصر الفكر الغوغائي وتعم الفوضي وسوء التقدير.
لن تنهض مصر إلا إذا تخلصت من هذا التفكير التآمري, ولن تتخلص من هذا التفكيري إلا بالبدء في نهضة شاملة تبدأ بتغيير منظومة التفكير والثقافة والتعليم.