يتحدث المزمور 73 عن حيرة المؤمن وهو يمر بأزمات لا يجد لها تفسيرا,ويعلمنا أن خير ما نفعله هو أن نمثل في محضر الله ونسأله أن يجاوب علي أسئلتنا, ويذكر المرنم أربعة أسباب لمشكلته,تأمل أولها الأسبوع الماضي,وهو (أ) راحة الأشرار,واليوم نتأمل الثلاثة الباقية.
(ب) كبرياء الأشرار: لذلك تقلدوا الكبرياء. لبسوا كثوب ظلمهم. جحظت عيونهم من الشحم. جاوزوا تصورات القلب (آيتا6, 7). تحير المرنم من كبرياء الأشرار,فعندما عاشوا في راحة افتخروا وكأن كبريائهم قلائد شرف حول أعناقهم,وصارت حياتهم ظلما مستمرا للمساكين,وكأن ظلمهم ثياب لا يستغنون عنها. وقد وصف داود الشرير بأنه لبس اللعنة مثل ثوبة (مز109:18)… وعندما أكلوا ما ظلموا به الفقير سمنوا,فجحظت عيونهم من كثرة السمن! ووصف أليفاز التيماني أحد هؤلاء الأشرار المتكبرين بالقول: لأنه قد كسا وجهه سمنا,وربي شحما علي كليتيه (أي15:27) وقد بلغت كبرياؤهم القمة فتفوقوا في الشر علي من سبقوهم وزادوا عنهم. ولم يسبق للمرنم أن رأي شخصا أو سمع عن شخص بمثل هذه الكبرياء!.
(ج) حديث الأشرار: يستهزئون ويتكلمون بالشر ظلما. من العلاء يتكلمون. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشي في الأرض (آيتا8, 9). استراح الأشرار وتكبروا وظلموا الآخرين,فظنوا أنهم آلهة, وأن أقوالهم فروض يجب علي مستمعيها أن يصدقوها! فتكلموا كأصحاب سلطان,ونادوا بمبادئهم الشريرة كأنها شرائع إلهية لا تتغير,فجدفوا علي الله, وأهانوا البشر المخلوقين علي صورته.
(د) أتباع الأشرار: لذلك يرجع شعبه إلي هنا,وكمياه مروية يمتصون منها,وقالوا: كيف يعلم الله؟ وهل عند العلي معرفته؟ (آيتا10, 11). يتحير المرنم من شعبية هؤلاء الأشرار,فقد رجع كثيرون من شعب الرب عن طريق الرب وتبعوا هؤلاء الناجحين الأشرار بعد أن رأوا نجاحهم,وظنوا أن كلامهم منزل, وأن أفكارهم نماذج يقتدي بها,فأخذوا يشربون من كأس خطاياهم وكأنه مياه تروي ظمأهم!, وهتف هؤلاء التابعون المضللون: هل عند العلي معرفة؟,مرددين ما قاله الأشرار. الشرير حسب تشامخ أنفه يقول: (الله) لا يطالب. كل أفكاره أنه لا إله… قال في قلبه: إن الله قد نسي. حجب وجهه. لا يري إلي الأبد00 لماذا أهان الشرير الله؟ لماذا قال: لا تطالب؟ (مز10:4, 11, 13).
ويكرر المؤمن شرح مشكلته,فيقول: هوذا هؤلاء هم الأشرار,ومستريحون إلي الدهر يكثرون ثروة. حقا قد زكيت قلبي باطلا وغسلت بالنقاوة يدي,وكنت مصابا اليوم كله,وتأدبت كل صباح (آيتا12-14). في هذه الآيات الثلاث يلخص المرنم مشكلته,فيقول إن الأشرار مستريحون وأغنياء,فما هي إذن مجازاة التقوي؟ إن ضميره صالح,وقد مارس كل فرائض شريعة موسي من غسل اليدين والرجلين (خر30:17, 21),ولكنه لم يأخذ من تقواه ونقاوته وممارسته للشريعة إلا المتاعب والاضطهادات والتأديبات كل صباح,وكان مصابا اليوم كله,مع أن الدين يعصون الشريعة لا يصابون مع البشر (آية5)! لكن الله لا يمكن أن يترك المؤمن في حيرته, إذ يقدم له الجواب المطمئن (آيات15-28). ولم يستسلم المرنم لشكوكه,بل صارع مع أسئلته وفي مقادس الرب وجد الجواب المطمئن,بعد أن كشف له الرب مشيئته الصالحة,فانتقل من التذمر إلي الانتصار.
(أ) لم يشك المرنم لإخوته المؤمنين: لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك (آية15). كان المرنم رغم تساؤلاته يحب الرب,ويحب المؤمنين,فرفض أن يغدر بهم بتصدير شكوكه إليهم. كما كان يثق أن الرب لابد سيجلو غمته,فلماذا يذيع أسئلة الغم؟…صحيح أنه لو حدث الناس بأسئلته المحيرة لفرج عن نفسه بالتعبير عن دواخله,ولاستراح قليلا. لكن هذه الراحة كانت ستفضي به إلي الانضمام لجماعة الأشرار,وسيحزن مرة أخري وهو يري الفكر المضلل ينتصر وينتشر ويزيد أتباعه,فيقولون: من هو القدير حتي نعبده,وماذا ننتفع إن التمسناه؟ (أي21:15). لقد كان يعلم أن شعب الرب هم أبناء الرب,فكيف يوقع الشك في قلوبهم,وكيف يهجر قضيتهم,وكيف يجرح مشاعرهم,وكيف يضع العثرات في طريقهم؟.
(ب) لم يخدع المرنم نفسه: فلما قصدت معرفة هذا إذن هو تعب في عيني (آية16). كان المرنم متحيرا لأنه عجز عن مصالحة محبة الله وعدالته وأمانته مع واقعه الصعب وآلامه المتزايدة…صحيح أنه لم يرد إزعاج غيره,لكن أمانته مع نفسه حيرته وأرهقته وهو يقلب الأفكار في رأسه.
(ج) وجد المرنم النصرة في حضرة الله: حتي دخلت مقادس الله وانتبهت إلي آخرتهم (آية17). وصل المرنم للحل وانتصر عندما دخل بيت الله وحدثت مواجهة روحية بينه وبين ربه,فكانت هذه نقطة التحول في موقفه,بعد أن أدرك أن وعود الله صادقة,وأن الشرير لابد سينال عقوبة شره,وهي الموت. وكان يوسف قد سبق المرنم في حل مشكلة شرور إخوته,بعد أن عجز وهو الصغير عن ردهم إلي رشدهم,فحمل أخبارهم إلي أبيه يعقوب,وهو الأقدر والأجدر بنصح أولاده. ويمكننا أن نتبع مثال يوسف والمرنم,لأن لنا أبا سماويا نحكي له مشاكلنا في مخدع الصلاة أثناء خلوتنا به,فيجيئنا التأكيد منه والراحة عنده.
أخيرا رأي المرنم نهاية الأشرار فقال: حقا في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلي البوار. كيف صاروا للخراب بغتة؟ اضمحلوا. فنوا من الدواهي.كحلم عند التيقظ يارب,عند التيقظ تحتقر خيالهم (آيات18-20). في محضر الرب رأي المرنم أسرار عناية الله المقدسة,وعرف أن آخرة الأشرار مزالق وبوار وخراب ودواهي تحل بهم فجأة,دون انتظار منهم ولا من تابعيهم. وكأن الله كان نائما يترك الأشرار وشأنهم,فاستيقظ ليحتقر خيالاتهم,فيكتشفون أنهم عاشوا حلنا وخيالا,لا حقيقة. وصدق صوفر النعماتي: فرح الفاجر إلي لحظة…كالحلم يطير فلا يوجد,ويطرد كطيف الليل (أي20:5, 8). إنهم كالزوان وسط الحنطة,فلابد أن يجئ يوم الحصاد عندما يحرقون بنار لا تطفأ (مت13:30).