ختم المرنم مزموره الحادي والأربعين بتمجيد ختامي, فقال (في آية 13) مبارك الرب إله إسرائيل من الأزل وإلي الأبد. آمين. فآمين (آية 13). وهو تمجيد يتكرر في نهاية كل قسم من أقسام المزامير, ينتهي به الكتاب الأول, الذي يحوي مزامير 1-14. كما ينتهي بمثله الكتاب الثاني (مزامير 42-72. انظر مز 72: 19), والكتاب الثالث (مزامير 73-89. انظر مز 89: 52), والكتاب الرابع (مزامير 90-106. انظر مز 106:48). أما الكتاب الخامس (مزامير 107-150) فينتهي بمزمور 150 وكله تمجيد للرب!
ما أكثر الأسباب التي تدفعنا لأن نبارك الرب ونمجده! مبارك الإله الذي ينتمي إليه شعبه, فهو إله شعبه المختار من كل قبيلة وأمة. يباركونه في ذاته, وفي صفاته, وفي أعماله. كله كمال وحب, وليس فيه مكر ولا غش ولا تضليل. نباركه في عمله معنا عبر السنين.. لقد خلصنا من خطيتنا, وفدانا من سطوتها, وأنعم علينا بالتبني, واعتني بنا بحب عجيب. مبارك هو في أرضنا في مخلوقاته وفي حياة المؤمنين لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات (مت 5: 16), ومبارك في الأبدية إذ يهتف له الملائكة والقديسون. مبارك دوما من الأزل وإلي الأبد, لأنه إله الماضي والحاضر والمستقبل. ونؤكد هذا التجميد بقولنا: آمين فآمين أي: ليكن هكذا! استجب يارب وحقق طلبتنا, لأننا ندعوك بكل القلب.
***
ويفرحنا أن نبدأ التأمل في مزمورين, هما المزموران الثاني والأربعون والثالث والأربعون, اللذين يتناولان موضوع العطش إلي الله. ويقول المفسر الألماني دليتش إن كاتب مزموري 42, 43 واحد من بني قورح رافق داود إلي محنايم بعد الانقلاب الفاشل الذي قام به ابنه أبشالوم ضده (2صم 15: 24). وبالرغم من أنين المرنم وانحناء نفسه وقتها وجد راحته في الأمل في الرب, فأخذ يحمده لأنه خلاصه.
يتكون المزموران من ثلاثة أعداد ترنيم, ينتهي كل منها بقرار يتكرر, يقول فيه المرنم: لماذا أنت منحنية يا نفسي, ولماذا تئنين في؟ ترجي الله لأني بعد أحمده, خلاص وجهي وإلهي (42: 5, 11 و43: 5). ويوضح مزمورا 42, 43 أشواق المرنم الروحية في تلك المرحلة المؤلمة, فيصف مزمور 42 حالة التقي الذي يتألم بسبب بعده عن مكان العبادة (آيات 1-5) ويصف سبيل العزاء في وقت هذا البعد (آيات 6-11). بينما يوضح مزمور 43: 1-5 أشواق التقي الذي يجوز تلك المرحلة.
وتنتهي كل فكرة من هذه الأفكار الثلاثة بإعلان الرجاء, إذ يخاطب المؤمن نفسه قائلا لنفسه: ارتجي الله لأني بعد أحمده.
يبدأ المرنم بشرح حالة التقي (مزمور 42: 1-5) فيصفها أنها
1- حالة شوق: كما يشتاق الإيل إلي جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلي الله, إلي الإله الحي. متي أجئ وأتراءي قدام الله! (آيتا 1, 2). يشبه المرنم نفسه بالأيائل والغزلان التي تحتاج للماء الوفير, خصوصا في مواسم الحر والجفاف, فيصرخ طالبا الله ينبوع الماء الحي: يارب.. يروون من دسم بيتك, من نهر نعمك تسقيهم.. لأن عندك ينبوع الحياة (مز 36: 6, 8, 9) ولن ترتوي النفس الحية إلا بالله الحي. وما أسعد الإنسان الحي, الذي نال الحياة الجديدة من الله, فارتوي بربه الذي يحفظ له استمرارية هذه الحياة ويضمنها, فتستمر العلاقة الشخصية الدافئة بينه وبين إلهه. وما أتعس من يعاتبهم الله بالقول: شعبي عمل شرين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا آبارا مشققة لا تضبط ماء (إر 2: 13).
عندما هرب داود أمام أبشالوم بعيدا عن بيت الرب, حمل صادوق الكاهن واللاويون تابوت الرب إلي حيث كان داود, فأمرهم أن يرجعوه إلي مكانه, وقال: إن وجدت نعمة في عيني الرب فإنه يرجعني ويريني إياه ومسكنه (2صم 15: 25). ويربط المرنم بين رضي الله عليه ومثوله في حضرته في هيكله ليتعبد. وكان هذا شعوره الدائم, فنسمعه يقول: عطشت إليك نفسي. يشتاق إليك جسدي في أرض ويابسة ناشقة بلا ماء (مز 63: 1). لقد ملأ حب الله قلبه, فخلق في داخله شوقا قويا إلي الله نفسه, فأراد أن يتراءي يظهر أمام الرب.
كان داود قد خسر الكثير بهروبه أمام أبشالوم: خسر عرشه, وسلطانه, والراحة في قصره. كما خسر سمعته بسبب سوء تصرف ولده. ولكن المرنم اعتبر خسارة الملك الحقيقية كانت حرمانه من بيت الرب, فأعلن شوقه وشوق الملك للعبادة فيه. ولا يحسن بقيمة امتياز العبادة إلا من يحرم منها. وعندما نحس بالأشواق الروحية نعلم أن الله لم يتركنا, كما أننا لم نتركه!
ويحتاج المسيحيون في كل العالم إلي تنمية شوق خاص إلي بيت الرب في يوم الرب, خصوصا في البلاد التي يكون فيها يوم الرب يوم عمل رسمي. وعليهم أن يبذلوا جهدا خاصا ليقولوا مع المرنم: متي أجئ وأتراءي قدام الله! في يوم الرب وفي بيت الرب.
2- ويصفها بأنها حالة حزن: (آيتا 3, 4).
(أ) بسبب تعييرات العدو: صارت لي دموعي خبزا نهارا وليلا, إذ قيل لي كل يوم: أين إلهك؟ (آية 3). امتنع المرنم عن الطعام بسبب الحزن لأنه ابتعد عن بيت الله, وصارت له الدموع محل الخبز! وزاد من آلامه أن أعداءه سخروا من تدينه وعبادته وقالوا له: أين إلهك الذي طالما صليت له وعبدته وكتبت عنه المزامير؟.. كانت اختبارات داود الروحية كثيرة, تحدث عنها عندما أخذه الرب من وراء الغنم وجاء به إلي العرش, فقال إن الرب راض عنه, وإنه يضع ثقته في إلهه أما الآن فإن الرب بعد عنه وتركه! في ذلك الوقت العصيب سب شمعي بن جيرا الملك داود وقال له: قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول.. وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء (2صم 16: 8) مع أن الرب هو الذي اختار داود ليكون ملكا وأعطاه الملك. وعندما يسمح الله لنا بآلام وتجارب, كثيرا ما نسمع السؤال: أين إلهك؟.
(ب) بسبب الحرمان من بيت الرب: هذه أذكرها فأكسب نفسي علي, لأني كنت أمر مع الجماع, أتدرك معهم إلي بيت الله بصوت ترنم وحمد, جمهور معيد (آية 4). وزاد حزن المرنم وهو يعود بالذاكرة إلي الأيام الجميلة التي كان يذهب فيها لبيت الرب عابدا ومعيدا, يقود المجتمعين للعيد من كل أنحاء المملكة, وهم يتدرجون صاعدين التل الذي بني عليه بيت الرب, ويرتلون مزامير الترنم والحمد التي كتبها لتلك المناسبة المبهجة. لأن يوما واحدا في ديارك خير من ألف. اخترت الوقوف علي العتبة في بيت إلهي علي السكن في خيام الأشرار (مز 84: 10). صحيح أنا الحزن يزيد عندما يذكر الإنسان الأفراح السابقة, ولا يحس بروعة الشئ إلا المحروم منه. ولكن المرنم يرد علي تعيير الساخرين منه بقوله إنه كان يعبد الله بالروح والحق, وأن هذا الإله الأمين لن يتركه في محنته.