خرجت من البطش الإسرائيلي بالمدنيين علي متن قوارب القافلة البحرية في المياه الدولية توازنات يمكن أن تقود إلي حلول جذرية إذا تصرف أقطاب اللجنة الرباعية الدولية بحكمة وجرأة وإذا أحسنت القوي الإقليمية, وعلي رأسها مصر وتركيا, قراءة الفرص المتاحة لدعم فلسطين بلا مزايدات. إسرائيل فقدت صوابها في الآونة الأخيرة لأنها تحت ضغوط هزت ثقتها بقدرتها علي رسم خطوات تمشي فيها الولايات المتحدة الأمريكية, كالعادة. إيران قلقة من تنامي دور تركيا, لا سيما أن القافلة البحرية التي فضحت البطش الإسرائيلي تحركت نحو غزة بقرار كسر الحصار برعاية تركية سياسية وليس باعتباطية إنسانية. وهذا يعني أن تركيا قررت استراق القضية الفلسطينية من المصادرة الإيرانية الشيعية لها لإعادتها إلي القيادة السنية. يعني أيضا أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يلعب سكتين مع إيران, إحداهما سكة الاحتضان في الملف النووي ليقحم تركيا في محادثات الدول الكبري في الشأن الإيراني. والسكة الثانية هي سكة انتزاع شعلة الراية الفلسطينية من القوي الشيعية المتمثلة أولا بإيران وثانيا بـ حزب الله.
دخول مصر علي التوازنات هذه لافت جدا ويستحق التدقيق علي الصعيد الآني وصعيد موازين القوي في المنطقة, فالقضية الفلسطينية باتت أداة من أدوات الحنكة السياسية والعاطفة الشعبية الإقليمية. مصر فتحت معبر رفح حتي إشعار آخر بإجراء يفيدها إقليميا ومحليا. فهي شقت طريق دور عربي علي المنافسة الإيرانية _ التركية في شأن القضية الفلسطينية. وهي تدرس ما إذا كان معبر رفح الي غزة معبرا لها لتفادي أزمة حكم داخلية. منظمة حماس قد تكون المستفيد الآني من العملية العسكرية الخائبة ضد أسطول الحرية, إلا أن حماس ستكون أكثر فأكثر تحت المجهر لأن الحصار الإسرائيلي غير الشرعي أتي انتقاما من فشل حماس في ضبط نفسها كحكومة ومن فشلها في ضبط غيرها من الفصائل الفلسطينية. السلطة الفلسطينية أيضا ستكون تحت الرقابة. فإذا أحسنت توظيف الرأي العام العالمي الغاضب من تمادي إسرائيل بلا عقاب, فقد تتمكن من حشد الدعم الملموس المبني علي استراتيجية تمكين الفلسطينيين من بناء مؤسسات تقود إلي إنشاء دولتهم المستقلة. حتي الرأي العام, لا سيما العربي, تحت المجهر. فقد حان له أن يكف عن العاطفية الاعتباطية, وأن يلعب دوره الضروري في دفع الأمور نحو إيقاظ القيادات إلي مخاطر ألاعيبهم التدميرية, وأن يكون رأيا عاما بناء حقا بتماسك ووعي واستمرارية.
أقطاب لجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة مطالبون اليوم بأدوار غير تلك التي تميزت بالتردد بالمواقف التجميلية, بل مواقف مسيئة أحيانا بسبب قصر نظرها.
اليوم, يجب علي الأمم المتحدة والأمين العام بان كي مون عدم الاكتفاء ببيانات الإدانة والتنديد بالخروقات الإسرائيلية للقانون وللأعراف الدولية ولضربها عرض الحائط بالمطالبات المتكررة برفع الحصار عن غزة. اليوم, حان الوقت لجرأة أكبر من جانب الأمم المتحدة لتؤكد مركزية القانون الدولي والشرعية الدولية بلا تردد ولا اعتذار ولا خوف ولا التباس. فإذا كان تقرير القاضي ريتشارد جولدستون قد سقط في دهاليز السياسة وأزيلت عنه الحاجة الفورية للمحاسبة, فإن مأساة القافلة البحرية يجب أن تكون مدخلا إلي تعامل جديد للأمم المتحدة مع الخروقات للقانون الإنساني والقانون الدولي.
التحقيق الدولي المستقل أساسي, لا سيما أن التحقيقات الداخلية الإسرائيلية أثبتت دائما اأنها رهينة الحسابات والموازنات السياسية تحت غطاء المصلحة الوطنية والأمن القومي. علي الأمم المتحدة أن تجهز نفسها بملف متكامل لشتي الخروقات الإسرائيلية كي تتمكن من الوقوف بثبات وجدارة عندما تتحدي هذه الدولة المحمية تقليديا من المحاسبة. هذا واجب أخلاقي علي الأمم المتحدة وعلي الأمين العام بان كي مون.
الاتحاد الأوربي بدوره عليه مسئولية مميزة إذ أنه مطالب بموقف جدي نحو إسرائيل, دعما للأمم المتحدة والشرعية الدولية, وكذلك في إطار محاسبة إسرائيل علي تجاوزاتها بما في ذلك ما فعلته من تزوير واحتيال في عملية اغتيال أحد قادة حماس في دبي مطلع هذه السنة.
أدوات الاحتجاج لدي دول وشعوب الاتحاد الأوربي كثيرة, تشمل وسائل خاصة بها لكسر طوق الحصار علي غزة ووسائل اقتصادية نحو إسرائيل نفسها. فالمساعدات الأوربية للسلطة الفلسطينية سخية تشكر عليها. أما إذا كانت هذه المساعدات وسيلة لرفع العتب وتجنب إجراءات عقوبات ثنائية وجماعية لإسرائيل خوفا منها ومن اللوبي الذي يهدد بعواقب لمثل هذه الإجراءات, فالأفضل إعادة النظر. ذلك أن عضوية الاتحاد الأوربي في الرباعية تضع علي أكتافه مسئولية تتعدي شراء الستر بمساعدات مالية. واجب هذه العضوية ألا تنسي العامل الأخلاقي والسياسي والقانوني والشرعي. وواجب أوربا أن تكف عن الاختباء وراء إصبعها.
روسيا أكثر تملصا وتهربا من استحقاقات عضويتها في الرباعية. فهي تارة تختبئ وراء تضحيتها بدورها الذي كان متساويا مع الدور الأمريكي أثناء الحرب الباردة وقبولها بدلا من ذلك بقيادة أمريكية لملف النزاع الفلسطيني _ الإسرائيلي. وهي تارة أخري تدخل علي هذا الملف من منطلق احتياجات علاقاتها الإقليمية مع دول ومع منظمات وفصائل.
في وسع روسيا لجم الحرب في المنطقة وفي استطاعتها لجم منع السلم الذي تقوده إيران وحلفاؤها. واجب روسيا اليوم هو أن تضغط علي إيران كي تكف عن استخدام القضية الفلسطينية في فلسطين وفي لبنان لغايات تفيدها في تموضعها الإقليمي والداخلي بصورة تؤجج احتمالات اندلاع النزاع وباستراتيجية أساسها منع العملية السلمية من الانهيار.
روسيا تعتبر نفسها طرفا في صنع السلام عبر عضويتها في الرباعية. وإذا كانت إيران تعوق السلام, فعلي روسيا استخدام نفوذها بلا مواربة لصدها عن ذلك, علما أن العلاقات الثنائية بين البلدين تسمح لموسكو بمثل هذا الدور سياسيا واقتصاديا.
إدارة باراك أوباما هي في طليعة المطالبين بفرض نفوذهم علي إسرائيل الآن. فما حدث في عرض المياه الدولية عندما هاجمت القوات البحرية الإسرائيلية قافلة نشطاء السلام, بمن فيهم الإسلاميون, أطلق غضبا عالميا ليس فقط من إسرائيل وإنما أيضا من حماة الدولة المدللة, أي الولايات المتحدة الأمريكية. الرأي العام العالمي لم يشتر التفسيرات الإسرائيلية. والغضب سيزداد وسيعوق استراتيجيات أخري للولايات المتحدة مثل اعتزامها فرض عقوبات إضافية علي إيران بسبب خروقاتها للقرارات الدولية وانتهاكها معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
كسر الحصار غير الشرعي الذي تضربه إسرائيل علي غزة بات في ذهن حكومة بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه إيهود باراك كابوسا يتعدي كسر الحصار نفسه. أنه كسر شوكة إسرائيل وإجبارها علي القيام بما لا تريد القيام به _ هذه المرة عبر ناشطين إنسانيين وسياسيين في أعقاب تطويق دولي لإسرائيل في مؤتمر نيويورك النووي, فطار صوابها.
ما سيحدث في الأيام والأسابيع المقبلة قد يؤدي فعلا إلي كسر الحصار, إنما لن يحدث ذلك بصورة تفتح الأبواب والممرات والمعابر لتدفق السلاح وتهريب المقاتلين إلي غزة. فإذا كان هذا ما هو في أذهان بعض الذين سيحاولون الاتجار بقافلة السلم لغايات تخدمهم, فهؤلاء لن يصابوا بخيبة فحسب, بل إنهم سيقدمون أكبر إيذاء وإساءة للفلسطينيين تحت الاحتلال وتحت الحصار. إنهم, لو حاولوا, سيسحبون البساط من تحت أقدام فرصة مميزة لحشد الدعم العالمي وراء رفع الحصار وللضغط علي إسرائيل بصورة جدية.
ضغط باراك أوباما علي إسرائيل بصورة جدية يعني أن عليه الآن أن يتقدم بخطة جدية تفرض إجراءات السلام. وكي يفعل, من المفيد للدول العربية أن تكون واعية لكيفية توظيف النافذة العالمية بصورة بناءة, سياسيا ورأيا عاما, وهذا يتطلب لجم المزايدات.
مصر الآن في الواجهة ومن بالغ الضرورة لها أن تتخذ إجراءات نحو غزة بمستوي المسئولية. فمصر هي مفتاح غزة, هذا بجانب فائدة سير مصر علي قدم المساواة مع تركيا بالضغط علي الفلسطينيين في غزة بصورة جدية وحاسمة وذلك لإعطاء الزخم والفرصة لقيام باراك أوباما بالضغط علي الإسرائيليين.
القيادة التركية المتمثلة بأردوغان تلعب الورقة الإسلامية وتحشد وراءها التيار السني العربي لتقول لإيران وللعرب: لا حلول في المنطقة من دون تركيا, وأنا القائد.
في هذه الجولة, ربما تمكنت تركيا من تقزيم الدور الإيراني وتبعاته في غضون 24 ساعة عندما خطفت الشارع الإسلامي والعربي وأبلغت إسرائيل: لا تختبروا صبر تركيا. إنما الصبر لغة إيرانية أساسا ومعارك الصبر تتأجج داخل تركيا بين الإسلاميين والعسكر وداخل إيران بين الحكم والمعارضة. أما صبر العرب, فإنه أيوبي من نوع آخر. ولذلك ما زالت معركة القيادة للقضية الفلسطينية تركية _ إيرانية حتي يوم اليقظة العربية من السبات.
عن الحياة اللندنية